للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

نسائم الروح الخالق والسر البديع، وجرت على الثرى المقدس دماء الضحايا الأُوَل فتفَّطر بالنبات البهيج، وبدت على الوجود المصري مظاهر الشباب من الرونق والصفاء والجدة والقوة، وتمردت على الطغيان المسلح نفوس شيَّعها الإيمان بالحق، وحطمت أسلاك البرق ودمرت طرق الحديد لتقطع ما بينها وبين جنود الذل، وأجبرت الغاصب الغاضب على أن يحترم رأيها في الشيخوخة الاسيرة، وعزمها في الشبيبة الثائرة، واتسع نطاق الأفق للقلوب التي حصروها بالكبْت، وانكشف رقيع السماء للأبصار التي عقدوها بالأرض، وفتح التاريخ للشعب المجيد، كتاب العهد الجديد، وكادت تتوالى صفحاته لولا أننا من الحلفاء وكالحلفاء، ربحنا الحرب وخسرنا الصلح!

يعود مارس فيعود العقل العازب، وينتبه الضمير الغافل، ويستطيع كل امرئ أن ينظر إلى الوراء فيرى ماذا ترك، والى الأمام فيرى ماذا قدَّم، ثم يجيب أطياف الشهداء وهي تطوف ساهمة الوجوه أمام الأزهر، وحول ابن طولون، وخلال المقبرة الموحشة، تسائل كل عابر: ماذا صنع الأحياء بعهود الموتى، وكيف حال المعيدين على لحوم الضحايا؟

يعود مارس فيودع في أوائله الشتاء، ويستقبل في أواخره الربيع، ونحن وان تلكأ بنا الحظ البليد خمسة عشر عاما لابد موفون على ربيع النهضة! وان في هبَّة الشباب من غفوته المريبة، ومعالجته الأمور من جهاتها المنتجة، واضطرام الشعور القومي في ذكرى مارس، وإطباق الرأي العام على وخامة الحال، لبشيراً بتوافي النفوس على الخير، وتواطئها على الجد، وتعاونها على الإصلاح

ليس في منطق الأشياء ولا من سنة الوجود، أن يجتمع لمصر ما لم يجتمع لغيرها من أسباب الطموح ووسائل الصعود، ثم تظل في ساقة الركب الأممي تمشى ظَلعاء إلى أمدها المرسوم وغايتها المرجوة، إنما هي عوائق تقيمها الذئاب ليُفردوا بها الحَمل الغافل عن القطيع! وان في هذه الذكريات العزيزة الطيبة حافزاً للهمم الوانية، وموقظا للضمائر الغافية، ومهُيباً بشوارد الأنفس إلى سواء السبيل.

احمد حسن الزيات

(محاضرة الآنسة مي

للدكتور طه حسين

<<  <  ج:
ص:  >  >>