لا اعرف شيئاً يحتاج إلى أن يقام عليه الدليل، والى أن يتكلف أصحاب المنطق والنظر له الحجج والبراهين، كالبديهيات التي يخيل إلى الناس أنها أوضح من أن تحتاج إلى دليل، وأبين من أن تحتاج إلى دليل، وأبين من أن تحتاج إلى أن تكد في إثباتها العقول، وقد زعموا لنا أن بعض أصحاب الرياضة يشك في أوليات الرياضة، ومن يدري لعل شكهم هذا ينتهي إلى أن هذه الأوليات بعيدة كل البعد عن أن تكون من الأوليات!. كنت أفكر في هذا كله أمس، حين كنت أذهب إلى الجامعة الامريكية، لأسمع للمحاضرة التي كانت الآنسة الجليلة (مي) تريد أن تلقيها، لأن موضوع هذه المحاضرة كان يدعو إلى مثل هذا التفكير، فقد زعموا لنا أن الآنسة كانت تريد أن تظهر فضل المرأة على الحضارة الإنسانية، وأعترف بأني لم اشك في يوم من الأيام ولا في لحظة من اللحظات بأن للمرأة على الحضارة الإنسانية فضلا لا يجحد، كما أن للرجل على الحضارة الإنسانية فضلا لا يتاح الشك فيه إلا لأمثال هؤلاء الرياضيين الذين لا يجزمون بأن الأربعة إذا قسمت على اثنين كانت نتيجة القسمة أثنين، وكنت اسأل نفسي عما تريد الآنسة (مي) أن تقول لتبين لنا فضل المرأة على الحضارة الإنسانية، فذلك شيء لا يحتاج إلى أن يقول فيه قائل، أو إلى أن يثبته مثبت، ولكن ما رأيك في أني سمعت المحاضرة، وانصرفت إلى داري وأنا أشك شكا عظيما في أن للمرأة فضلا على الحضارة الإنسانية؟ وأسأل نفسي عما أرادت الآنسة (مي) إليه بمحاضرتها القيمة الممتعة، أرادت أن تقنعنا بان للمرأة فضلا على الحضارة؟ أم أرادت أن تشككنا في ذلك؟ وتبسط عليه سلطان الريب في نفوسنا، ومن يدري لعل أديبا من الأدباء البارعين أن يفكر ذات يوم في أن يثبت فضل الرجل على الحضارة فينتهي في نفسي إلى ما انتهت إليه الآنسة (مي) أمس من إثارة الشك والريب.
وإذن أنا مقتنع بان الحضارة الإنسانية قد أنشأت نفسها وليس للرجل عليها فضل، ولا للمرأة عليها فضل، وإنما هي صاحبة الفضل عليهما جميعاً لأنها أنشأتهما إنشاء، ومتعتهما بما ينعمان به من لذات الحياة وآلامها، فهما ينعمان بالآلام كما ينعمان باللذات، وآية ذلك أن الآلام تلهمهما روائع الشعر والنثر والفن، وتحيي في نفوسهما من الفضائل، وجميل الخلال ما يملؤها متاعاً ولذة وشعوراً بالكرامة، وأملا في المستقبل وحباً للحياة، فالرجل والمرأة إذن ينعمان بالآلام كما ينعمان باللذة، ولعل أديباً من الأدباء الذين لهم حظ الآنسة (مي) من