الممثلين فقط، وأني أعتقد أنه قد شاهد بنفسه موقفه الأول في (البحث عن الذهب) ثم درسه ثم استخرج منه موقفه الثاني في (أنوار المدينة) فدبره تدبيراً ونسجه نسجاً، ثم حققه تحقيقاً نجح فيه إلى أقصى حدود النجاح. . .
وشارلي شابلن يمتاز بإطلاعه على أسرار النفوس وتمكنه من قوانينها. فهو يضع مواقفه التمثيلية ويعرف ما سيفعله كل منها في نفوس النظارة لا تفوته في ذلك فائتة، وإذا كانت عبقريته هي التي تساعده في غربلة رواياته وتنقيتها من المواقف الباردة المتكلفة وإذا كانت هي التي تهيئ له كمال الدقة في تصوير النزعات الإنسانية وحركات العقل الإنساني في المواقف المختلفة تصويراً يكون مؤلماً أحياناً ويكون مضحكاً في أغلب الأحايين، وإن كان هذا لا يبرئها من معاني الألم والشقاء. . . إذا كانت عبقريته هي التي تهيئ له هذا الكمال وهذه الدقة في تصوير كل عاطفة وكل نزعة وكل حركة من حركات العقل. . . فأي شيء هو الذي يمكنه من أن يصل إلى الكمال والدقة في خلط العواطف المتناقضة بعضها ببعض حتى ليخلط في نفوس الناس البكاء بالضحك فإذا بهم يجنون وهم يشاهدونه
أعبقرية هذه هي أيضاً؟
كلا. وإنما هو الجنون. فشارلي شابلن لابد أن يكون قد جن في حالة من حالات حياته جنوناً ربما لم يكن استغرق إلا ومضة من ومضات الروح تشععت فيها نفس شارلي من ناحيتين متضادتين، فاختبل، إذ أحب وكره في آن واحد، وإذ غضب ورضى في آن واحد، وإذ أحسن وأساء في آن واحد، وإذ حزن وفرح، وإذ تقدم وتأخر، وإذ شبع وجاع، وإذ ثار وهو منهد. . .
وأمثال هذه المواقف والأحوال لا تحدث للناس عامة وإنما هي تحدث للأرهف منهم حساً، وللأذكى منهم عقلاً، ولأشدهم انطلاقاً نحو الحق. وحتى هؤلاء فإنه لا يحدث لهم هذا إلا قليلاً. ولو أنه كثير عليهم أو أطال بهم لفقدوا توازنهم ولاختلط عليهم أمرهم، ولاختل تكييفهم لأنفسهم بحسب الظروف العارضة لهم، ولقعد الجنون بهم عن تذليل المواقف العسرة التي تعترض حياتهم كما يقعد بهم عن الاستمتاع بالمواقف الحلوة التي تتفق لهم.
ويظهر أن هذين الموقفين أغريا نجيب الريحاني بأن يكون له موقف يشبههما. فقد عرض في رواية (حكم قراقوش) نفسه وهو محكوم عليه بالإعدام، ووقت التنفيذ لم يبق عليه إلا