الأشخاص، ويعددان الأسماء التي يعرفان أصحابها. وكانت أواصر الصداقة والمودة تزداد توثقاً بينهما كلما ذكرا شخصاً جديداً رأياه، أو صحباه، أو عرفاه. وكانت الكلمات تنطلق من ثغريهما بقوة وحماس، وسرعة ونشاط، مع نهاياتها الموسيقية الرنانة، ونغماتها الإيطالية الحلوة. ثم أخذ كلاهما يعرف صاحبه إلى نفسه:
أما المرأة فقد كانت متزوجة ولها من الأولاد ثلاثة تركتهم إلى أختها لترعاهم، وتقوم على خدمتهم، لأنها أخذت تشغل منصب مرضع وفير الربح، لدى سيدة فرنسية في مرسيليا
وأما الفتى الشاب فقد كان يبحث عن شغل، وقد قيل له: إنه سيجد - دون ريب - عملاً في مرسيليا لأنهم يكثرون من البناء والعمار هناك
وما أن بلغا هذا الحد من الحديث حتى اعتصما بالسكوت وأخذت الحرارة تزداد والنهار يَرْمض، وذكاء يشتد سعيرها كلما غذَّت الخطا في تسلق القبة الزرقاء، وكانت أشعة الشمس اللاهبة تسقط على عربات القطار فتزيد في شدة الحر، وتضاعف أواره المتسعر، وأخذت غمامة من الغبار الكثيف تتطاير خلف القطار، وتدخل العربات. وكان أريج زهر البرتقال والورود يزداد تضوعاً وانتشاراً، فيملأ الخياشيم ويفعم الأنوف واستولت على المسافرْين الفتَّيْين من جديد رغبة ملحة في الرقاد، فاستسلما طائعين لسلطان الكرى القاهر
وعدا بعد حين، فنفضا عن عيونهما بقايا النوم، في وقت يوشك أن يكون واحداً. وتضيقت الشمس أخيراً، وأخذت تدنو من البحر، وهي تنير صفحة الماء الأزرق بأشعتها الأرجوانية اللألاءة، فيزداد بريقه ويشتد تألقه والتماعه. وبدأ الهواء الطريُّ الرطب، أخف وطأة، وأقل ضغطاً.
وأخذت المرضع تلهث وكان صدارها مفتوحاً، وخداها مسترخيين، وعيناها كامدتين. . . ثم قالت بصوت ينم عن الإعياء البالغ، وألاين الشديد:
- منذ نهار أمس لم أُدن ثدي من طفل، وهاأنا ذا بسبب ذلك مضطربة الفكر، مشتتة القلب، موزعة الفؤاد، كما لو كنت مقدمة على إغماء شديد
ولم يحر الشاب جواباً، لأنه لم يدر ما يقول، ولا بماذا يجيب واستمرت المرضع في حديثها فقالت:
عندما تملك المرأة لبناً بالقدر الذي أملك، من الواجب عليها أن ترضع ثلاث مرات في