أولى بسكان الأبراج العاجية من كتاب العرب أن ينزلوا إلى منطق أهل الأكواخ المكتوين بنار الحياة حين يتحدثون عن قوميتهم وعقيدتهم كما يفعل أمثالهم في جميع الأمم قويها وضعيفها، وأن يتكلموا في هذه الحقبة من تاريخ الأمة العربية بلسان بني قومهم المحكومين المحرومين في أفريقية وأسيا، الذين لم يزوروا باريس أو غيرها ولم يفتنوا بدنياها. . . فإنهم لو تكلموا بلسان غير هذا، لكذبتهم الملايين التي استهلكت فرنسا قواها وتركنها تدخل إلى الحياة وتخرج منها، وهي على جهل وفقر وألم وسخط. وطبيعي أن الإنسان الأفريقي والأسيوي المحكوم بفرنسا هو أولى للناس بالحكم على النفس الفرنسية، لأنه هو الذي احتك بها وخبرها خبرة عملية في مجال وصايتها عليه، وعرف كذب فلسفتها وفنونها وإفلاسها في تهذيب أفضل عمل للإنسان: وهو الرياسة والسياسة
ولن يبالي هذا الإنسان المحكوم أكانت فرنسا حقيقة بلاد الفردوس المفقود في المواساة والعدالة والفن والعلم كما أراد أن يصورها الباكون عليها؛ أم كانت بناء قائماً على براكين اجتماعية وأنانية وتفسخ عائلي وتدليس اقتصادي كما يصورها عارفوها الذين لا يفتنون بالظواهر والقشور، وكما صورتها أحداثها الأخيرة التي رأينا فيها أكبر قائدين فيها كانا يقولان للفرنسيين قبل الهزيمة:(قاتلوا من أجل روح فرنسا!) ينقلبان بين عشية وضحاها بوقين يصبان اللعنات كل يوم على روح فرنسا. . . ويديران دفة الحكم تحت وصاية عدو فرنسا الأبدي إدارة ينظران فيها إلى اتجاهات أنظاره ومواقع رضاه. ولو أنتصر (فيجان) و (بتان) على الألمان لهتفا وهتف معهم الناس (المجد لروح فرنسا. . .)
في جميع الممالك التي أخضعتها ألمانيا من ابتداء الحرب، لم يسر الناس في موكب ألمانيا بمثل ما سار الفرنسيون، بل جميعهم قالوا لألمانيا: دونك فاحكمينا باسمك كما تشائين، ولكننا لن نحكم أنفسنا باسمك وبأسلوبك في الحكم
تلك ظاهرة تبين لنا أن فرنسا لم تكن مؤمنة بروحها، ولم تكن ممتلئة به. بل لا نبالغ إذا قلنا: إنها ليس لها روح يسيطر على أفرادها ويجعلهم يمثلون مثلاً أعلى يلمس في أغلبيتهم كما يلمس المثل الأعلى الإنجليزي في أغلب الإنجليز. . .
وخير ما نختم به هذا الحديث هو تلك النبذة التحليلية التي نشرها الأستاذ الصاوي صاحب (ما قل ودل) وصديق فرنسا المشهور قال: (وإذا عدنا إلى الفرنسيين - الذين ألقوا سلاحهم