ورَبَا عدد المسلمين فيها من عَدَاهم، فشعر المتخلفون عن الدين الجديد بضعفهم وعدم استطاعتهم المجاهرة بما في قلوبهم، ورأوا أن النفاق أسلم عاقبة وأشد خطراً وأعظم أثراً، ورأوا من الحكمة أن يقولوا:(آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم)، وأن ينتظروا الفرص السانحة لطعن المسلمين كما كان ذلك ممكناً
وكان رأس المنافقين بالمدينة عبد الله بن أُبي بن سلول، وكان شريفاً من أشراف يثرب، يطمع في أن تكون له السيادة والحكم فيها؛ فلما جاء النبي إليها وخضع أهلها لسلطانه ودانوا بمبادئه وعقيدته، ضاعت الفرصة من أبن أُبي، وأحزنه أن يكون ضياع سلطانه المنتظر، وخيبة أمله في السيادة، آتياً من رجل غريب عن يثرب، أخرجه قومه، وشردوا أصحابه في الآفاق. ورأى من الحكمة أن يُدارى، وان يدخل فيما دخل فيه الأكثرون ظاهراً، وإن لم يستطيع أن ينزع من قلبه المرض الخفي الذي ملأه نفاقاً، وسَالَمَ الرسول، وآمن بلسانه وفي نفسه ما فيها، حتى إذا حدث ما يدعو إلى إظهار الكفر سارع فيه ونال من المسلمين بلسانه ومكايده، وخذلهم في الحرب ووقت الشدائد.
وقد بين القرآن صفات المنافقين عامة، وهي صفات تدل عل أنهم كانوا من أشد أنواع الطابور الخامس أذى، وكان منهجهم في السلم أن يظهروا الإيمان، وأن يطعنوا في النبي وآله ويفروا من حكومته، ويرفضونها، وأن يفرقوا بين المؤمنين
أما الأمر الأول، وهو حقيقة نفاقهم فمذكور بتفصيل في الآيات الكريمة:(ومن الناس من يقول آمنّا بالله وباليوم الأخر، وما هم بمؤمنين، يخادعون الله والذين آمنوا. وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضاً. ولهم عذاب أليم بما كانوا يكسبون. وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس، قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء؛ ألا أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون. وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوْا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون). وكانوا إذا جاءوا رسول الله أقسموا أنهم يشهدون أنه مرسل من ربه ليستروا نفاقهم بهذا القسم. وكان أبن أُبيٍّ رجلاً جسيماً صبيحاً فصيحاً ذلق اللسان، وكان قوم من المنافقين في مثل صفته، يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيستندون فيه، ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن، فكان النبي ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم، فنزل قوله تعالى في السورة المسماة باسمهم: (إذا جاءك