ومشينا وخرجنا من تبوك سبعين كيلاً لم نجد فيها ما نتحدث عنه، أو نشكو منه، فقد كانت الأرض متماسكة شديدة درجت عليها السيارة بسهولة، وكل ما وجدناه فيها من الصعاب ثلاثة شعاب رملية لا يتجاوز عرض الواحد منها كيلاً ونصف كيل، ورياح شديدة خبرنا الدليل أنها لا تكاد تنقطع من ذلك المكان، ثم بلغنا أوائل الجبال، فدخلنا وادياً متسعاً فيه تلال من الرمال، فلم نسر فيه إلا قليلاً حتى كثرت فيه الصخور، وأزداد ارتفاع الجبال من حولنا، وكانت الصخور هرمة بالية مؤلفة من صحائف رقيقة كصحائف الكتاب، تتفتت من مس الأيدي، والوادي ممتلئ بفتاتها، ثم ظهرت في الوادي تلال من الرمل الأحمر الناعم المتموج، لها منظر أخاذ. واستمرت هذه المشاهد من حولنا مسيرة ثلاثين كيلاً، ثم عرضت لنا جبال فيها الصخر الأسود تخالطه بقع حمراء، وصلنا بعدها إلى أرض مستوية تشبه (بسيطة) التي مررنا عليها قبل أن نصل إلى جبال الطبيق في طرقنا إلى تبوك، ثم أمسى علينا المساء في بقعة أسمها (ساح الغزوان) فبتنا فيها، وبينها وبين تبوك (١٤٤) كيلاً، سجلها راقم السيارة (الكيلو متراج) ومعنى (ساح الغزوان) عندهم ميدان المعركة. نزلنا نشهد الشمس هي تجر ذيلها الذهبي على الوهاد والنجاد ثم تتوارى وراء الأفق البعيد، فجلسنا نمتع الطرف بمحاسن المساء في الصحراء ونريح النفس إلى سكونها وصفائها حتى إذا لف الكون الظلام أوقدنا النار وأشعلنا المصابيح وفرشنا الفرش، وكنا في أول الرحلة ننصب سرادقاً نبيت فيه فصرنا ننام تحت السماء بين أحدنا والآخر أكثر من عشرين متراً لا نخاف وحشاً ولا نخشى لصاً، فقد أمن الله الجزيرة بابن السعود حتى صار أمنها حديث الناس، وأنعقد عليه إجماع من أم الحجاز أو جال في بواديها، ولقد ترك أصحابنا التجار (وقد كانوا يسيرون على أثرنا بيننا وبينهم مسيرة ثلاثة) سيارة مترعة بالثياب والطعام وكل ما يرغب فيه البدوي، ويسيل لتصوره لعابه، ورجعوا إليها بعد شهر فما وجدوا شعرة منها أزيحت من مكانها على كثرة من مر بها من أعراب! وما أذكر أننا خفنا أو ارتعنا إلا ليلة واحدة نزلنا فيها على طرف واد، وكانت ليلة حالكة السواد فما شعرت إلا الدليل محمداً الأعرج يجر بيدي، فتبعته حتى ابتعدنا عن الرفقة، فأشار إلى جهة رأيت فيها كمثل المصباحين، فارتعت ودنوت منه فقلت: ما هذا؟ فقال وهو غير مكترث ولا مبال: هذا نمر! فنظرت إليه فإذا هو ساكن الطائر، وهادئ الجوارح كأنه حين يقول نمر يقول كلب