سنة ١٩٣٦. وفي الحق لقد كانت الفكرة جميلة تختلب النظر والقلب معاً وتستحق الثناء والشكر، لأنها تحقق غرضاً سامياً، وتملأ فراغاً استشعرته مصر الزراعية منذ زمان. وهي في لبها ترمي إلى أن تنشئ طائفة من أبناء صغار الزراع تنشئة تتفق والنهضة الحديثة التي قطعت البلاد فيها شوطاً غير قريب، ثم تدس بهم بين آبائهم وأهليهم لينهضوا بهم وليكونوا نواة للعمل العظيم الذي ينتظرهم بعد، وهو اطراح الطرق الزراعية العتيقة والأخذ بالحديث منها. غير أن شيئاً عدل بالغرض عن وجهته الأولى فأصبح يرمي إلى تخريج فئة من أشباه الموظفين والعمال يقومون على إدارة الدوائر والضياع والبساتين. واتخذت التجربة سبيلها في مكتبين ملحقين بمدرستي الزراعة المتوسطة بالمنيا ودمنهور، والتحق بالمكتبين صبيان أتموا التعليم الإلزامي ليتخرجوا بعد سنوات ثلاث
وارتطم المشروع بالصدمة الأولى، بقلة عدد التلاميذ، فكاد يهوي، أو لا أن حكمة القائمين على العمل تداركته ففتحت أبواب المكتبين عل مصاريعها لأبناء الفعلة والعمال والصناع والزراع على السواء، فتم عدد التلاميذ عشرة في كل من المكتبين وسار دولاب العمل. . .
نظام الدراسة ومدتها
الآن حق لأبن الصانع والعامل و. . . أن يلتحق بالمكتب الزراعي ليخرج بعد ثلاث سنوات عاطلاً لا يستطيع أن يجد عملاً أو أن يعين أباه أو أن يفيد وطنه أو يحقق الغرض الذي من أجله أنشئ المكتب. وماذا يفيد الصانع أو العامل أو الزراع نفسه أن يلقى أبنه - وهو شب وترعرع - يغدو إلى المكتب ويروح إلى الدار وهو في حاجة شديدة إليه، فراح كل منهم يحول بين ابنه وبين المكتب؛ فأوشك هذا العمل - وهو جليل - أن يتوارى عن الأنظار لولا أن أدركته حكمة الرؤساء مرة أخرى، فخلوا للتلاميذ أن يحضروا متى شاءوا وان يمتنعوا عن الدراسة متى أرادوا، دون أن يبدى الواحد منهم عذراً، أو أن يحتمل لوماً وتأنيباً، أو أن يؤاخذ أبوه؛ فانطلق التلميذ إلى غيه يهرب حين يلذ له الهرب، ويسكن إلى أمه أو أبيه حين يطيب له ذلك. وهكذا تداعت أبسط مبادئ الأنظمة، وأختل نظام العمل، أنهد الركن الركين في سير الدراسة، ولست أدري، ماذا عسى أن يكون هذا الطفل بعد حين وقد تدرج على ألا يأبه لنظام ولا أن يهتم بميعاد! وأندفع الصبي وأبوه يتغاليان - وقد نام الرقيب - فينطوي العام الدراسي كله ولما يحضر التلميذ غير شهر أو بعض شهر، ثم هو