وتتابعت الأعوام وشب الغلام، لم ير أباه ولم يره أبوه؛ وماذا يهم الفتى من ذلك وليس بدعاً هناك، وفي كل قرية من قرى الصعيد العشرات من مثل همام نزحوا عن أهلهم وولدانهم يلتمسون مثل ما يسعى له، لا يتواعدون على لقاء ولا يتراءون منذ الشباب إلا على هرم. . .! ومضت بضع سنسن، قبل أن يفكر همام في زيارة زوجته وولده؛ وراحت (مسعدة) تستقبله على شط النيل حيث ترسى به السفينة؛ وقال الفتى لأمه وهو يشير إلى رجال على ظهر المركب: أيهم هو؟ ونظر همام إلى غلمان وقوف على الشاطئ وقال لنفسه: أيهم هو؟. . . ثم التقيا فتعارفا وحن الدم إلى الدم. . .
. . . وعاد الزوجان إلى حديثهما، وعاد همام يقول:(بلى، وسيكون لنا دار ونخيل. . . وسيكون. . .) وهمت المرأة أن تقول شيئاً ثم سكتت، ورفعت إليه عينين فيهما ظمأ وشوق، وفيهما إعجاب وزهو، وأنستها حلاوة اللقاء مرارة الفراق، وعادت الأماني تخيل لها، وحلقت بجناحيه في واديه، وقالت لنفسها هامسة:(سيكون لنا دار ونخيل ومزرعة، وسيكون وأكون. . .) ثم فاءت تنظر إليه وفي عينيها لهفة وحنين!
. . . وقضى همام في القرية أياماً، ثم استأنف رحلته يسعى إلى أمله، وخلفها وخلف ولدين: أما أحدهما فغلام لم يكد يرى أباه حتى فقده، وأما الثاني فإنه لم يره قط، لأنه لا يزال بينه وبين الحياة تسعة أشهر. . .!
لم يكن عبثاً ما تحمل همام من مشقة البعد سنين وما لقي من جهد الحياة؛ فلم يكد يمضي عليه في القاهرة بضع عشرة سنة حتى تغير من حال إلى حال؛ فلم يعد العامل الذي يمضي بياض نهاره حاملاً مكتل الآجر، صاعداً هابطاً على خشب مشدود بين السماء والأرض، ليس له إلا وجبة واحدة من طعام؛ إنه اليوم رجل غير من كان؛ لقد عاد ذلك الثوب الخلق جديداً على جسد ناعم، وعاد البطن الخاوي شبعان ريان من طيب الطعام والشراب، وعادت الغرفة المشتركة بين بضعة نفر يفترشون الأرض شقة ذات أثاث ورياش؛ وعاد الأجير الفقير سيِّداً يجري النفقة على أجرائه وخوله؛ وتلاحقت دراهمه فنتجت وأصبح ذا مال!
وتصرمت بضع سنين لم تره زوجته ولم يرها، أما هي فعاشت هناك صابرة قانعة بما يرسل إليها كل شهر من نفقة، تمسي وتصبح حالمة بالدار النخيل والمزرعة، ويوم تكون