اللجاجة مع بعض القراء، مع أني أومن بأن الكبر المطبوع أخف روحاً من التواضع المصنوع. وأقول بعبارة صريحة أن التعبير اللساني له فنون، وقد تَدِق الفروق بين تلك الفنون، ثم تَدِق حتى تصبح من العسير أن نضع لها الموازين، ومن هنا ينشأ الخلاف في الحكم على طبقات المتحدثين والخطباء
وأضرب المثل بالفرق بين المحاضر والخطيب، فالمفهوم أن المحاضر والخطابة فنان يقتربان أشد الاقتراب، لأنهما في ظاهر الأمر يرجعان إلى أصل واحد، ومع ذلك نرى القدرة على المحاضرة والخطابة تتفاوت أشد التفاوت عند الرجل الواحد في بعض الأحيان
فالدكتور طه حسين محاضراً يُعد في الطبقة الأولى بين المحاضرين، ولو راعينا أن الدكتور طه لا يستطيع أن يهيئ كلاماً يأخذ بعضه برقاب بعض في دقائق تقارب الستين لجاز الحكم بلا مجاملة بأن الدكتور طه هو المحاضر الأول في هذا الجيل
ومالي لا أقول الحق كل الحق فأصرح بأني لم أشهد في مصر محاضراً يماثل الدكتور طه في جهارة الصوت ونصاعة الأداء؟ ولكن طه حسين خطيباً مخلوق آخر: فهو في الطبقة الحادية والعشرين بين خطباء هذا الزمان، وما سمعت الدكتور طه يخطب إلا أشفقت عليه، فمن العجيب أن الرجل الذي لا يتحبس ولا يتوقف وهو يحاضر قد يتعرض لأبشع ضروب الغي وهو يخطب، فمن أين جاءت هذه الفروق بين الموقفين مع قرب الصلة بين موقف المحاضر وموقف الخطيب؟
أيرجع السبب إلى أن الدكتور طه محدث بارع، والمحاضرة فن من الحديث؟
أم يرجع السبب إلى أن الدكتور طه يجري على فطرته وهو يحاضر فيسلس له القول، ويتكلف وهو يخطب فيمتع (بمزايا) المتكلفين من الفضلاء؟
هذا موضوع يصح للدرس، وهو من الدقة بمكان. وأذكر شاهداً آخر يوضح هذه القضية بعض التوضيح
كانت صحبتي طالت لفقيد الوطنية والدين عبد اللطيف الصوفاني، وكنت أراه أفصح الناس حين يدور الحديث حول المطالب القومية، ثم سنحت فرصة وجب فيها أن يقف ليخطب، فرأيت البون شاسعاً جداً بين الصوفاني المحدث والصوفاني الخطيب، ولعل شاعرنا شوقي راعى هذا المعنى حين قال وهو يرثيه: