وعرفت خطباء لا يجيدون إلا حين يحفظون خطبهم عن ظهر قلب، ومن هؤلاء المرحوم علي فهمي كامل الذي مات في رثاء شهيد الوطنية محمد فريد
وإنما قضيت بهذا لأني سمعته مرة يخطب نحو ساعتين بلا تلعثم ولا تردد، وكان ذلك في كلية مصطفى كامل في إحدى ذكريات الزعيم الأول، وبعد انفضاض الاحتفال بوقت قصير ظهرت جريدة اللواء وفيها خطبة علي فهمي كامل، فرأيت النص المكتوب عين النص المسموع، بلا تقديم ولا تأخير، وبلا زيادة ولا نقصان
ويؤكد من عرفوا الزعيم الخالد مصطفى كامل أنه كان يحفظ خطبه عن ظهر قلب، ويؤيد هذا خطبته التاريخية على مسرح زيزينيا بالإسكندرية، وهي أعظم خطبه، وبها ختم حياته الخطابية، وأسلوبها يشهد بأنه نظمها نظماً ثم حفظها قبل أن يلقيها على الناس
فكيف كان علي فهمي وهو يتحدث؟
كان أعجوبة الأعاجيب في قوة الأداء، وكان يطبق أسنانه بعنف في المواطن التي تحتاج إلى تأكيد، وكان يحفظ الأرقام مهما بعد عهدها في التاريخ، فلم يكن من الصعب عليه أن يذكر اليوم الذي وقع فيه حادث مأثور في أي عهد من العهود وقد حملته الثقة بالنفس على أن يتقدم للانتخابات في دائرة السيدة زينب منافساً للزعيم سعد زغلول؛ فلما راجعته في ذلك غضب وثار وأعلن أن انتصار سعد عليه أبعد تصوراً من المستحيل!
والمهم هو النص على أن علي فهمي كامل المحدث غير علي فهمي كامل الخطيب، لبعد ما بين الحالتين من العنف واللطف، والفطرة والطبع. ولم أشهد علي كامل يرتجل الخطابة إلا مرة واحدة في نوفمبر سنة ١٩٢٠ وقد وقف يخطب على قبر محمد فريد وهتف هاتف: يحيا سعد! فاغتاظ الرجل واندفع في تجريح سعد بقوة قهارة فرضت على السامعين أن يلوذا بالصمت والخشوع، في وقت لم يجرؤ فيه أحد على أن يذكر سعداً بغير الجميل
أما الشيخ عبد العزيز جاويش فكان يلقى خطبه بأسلوب المدرس المتمكن، وكان يغلب عليه أن يرد يده إلى أذنه بصورة من يدعو فكرة إلى التجمع، وكان يهتف بكلمة (وَي!) حين يرى المعاني تشرد أمام فكره القناص فترجع إليه وهي أوانس خواضع!