وكان الشيخ جاويش حين يتحدث في لحظات الصفاء أحيا من الفتاة البتول، وكان لصوته في أوقات اللطف نبرات عذاب، وكانت له ابتسامة حلوة إلى حد يفوق الوصف، وكان لعينيه بريق جذاب، فإذا غضب فحديثه ونظراته رعد وبرق وصواعق
كنت أدخل عليه في وزارة المعارف بلا استئذان، وكانت الفرص كثيرة لمقابلته، لأنه كان يمكث في مكتبه كل يوم نحو عشر ساعات، فيتغدى في الوزارة كيفما اتفق، ويصلي فيها الظهر والعصر والمغرب، وقد يحلو له الأنس بالواجب فيبقى في الوزارة إلى أن يصلي العشاء
دخلت عليه مرة فوجدت عنده إنساناً منزوياً في إحدى نواحي المكتب ورأيت الشيخ غضبان والشرر يتطاير من عينيه، فسلمت تسليماً مختصراً وجلست
وما هي إلا لحظات حتى انفجر الشيخ كالبركان في وجه ذلك الجليس، فقد صرخ:
(من يتزوج بناتنا إذا جاز لكل شاب مأذون ألا يزور أوربا إلا عاد ومعه زوجة فرنسية أو إنجليزية أو ألمانية؟
إن الأتراك لا يتزوجون بناتنا غطرسة منهم وكبرياء، والمغاربة وهم في مثل حالنا لا يتزوجون بناتنا إلا في قليل من الأحوال
فكيف يجوز لشاب أن يترك بنات وطنه للبوار، وهو يعرف في سريرة نفسه أن الفتاة المصرية معدومة النظائر في الجمال وأدب النفس؟ وما الذي بهرك من الفتاة الأوربية حتى تنسى بها بنت وطنك؟ ومتى يصير أمثالك رجالاً يعتمد عليهم الوطن وقد حرمكم الله نعمة الوطنية؟)
وخرج الشاب وهو آسف. وكانت لحظة صمت توهمت فيها عيني الشيخ جاويش مغرورقتين بالدمع، فطلب فنجان قهوة، ثم تكلف الابتسام، وقال:(لا تؤاخذني، فذلك فتى كان أبوه من أعز أصدقائي، وما كنت أحب أن ينسلخ من وطنه بالزواج من امرأة أجنبية)
ومع أن المسألة فيها نظر، ومع أني كنت أراجع الشيخ في كثير من الشؤون، فقد تخوفت عواقب غضبه إن راجعته في ذلك الشأن الدقيق، ثم انصرفت وقد عرفت أن الشيخ لا يرق ولا يلطف إلا في ساعات الصفاء، وأنه أخطب ما يكون وهو غضبان
أما مكرم باشا عبيد فلم أسمعه يخطب إلا في الحفلات، وهو يحفظ خطبه عن ظهر قلب