وقف يخطب في ذكرى ١٣ نوفمبر أيام الائتلاف، وبعد مدة تزيد على عشر دقائق دخل عدلي باشا يكن ومعه جماعة من الوزراء، فرجع مكرم باشا إلى مطلع الخطبة من جديد فأعادها حرفاً حرفا بلا تغيير ولا تبديل
أما مكرم باشا محدثا فلم أعرفه إلا في لحظات قضيتها معه بشارع ريفولي في باريس سنة ١٩٢٩، وهو يقبل عليك حين يحدثك إقبال من يهمه أن يظفر بثقتك، فيترفق ويتلطف، ويتنقل من فن إلى فنون، وهو في جميع أحواله خفيف الظل والروح
ولم أسمع مكرم باشا وهو يرتجل لأعرف الفرق بين حاليه في الأداء، ولكن من المؤكد أن حاليه يختلفان بسبب غرامه بالزخرف والتنميق، ومن كان كذلك فأمره في الروية غير أمره في الارتجال
ولم أسمع النقراشي باشا خطيباً، ويقول الذين سمعوه أنه ليس من الخطباء
أما النقراشي المحدث فهو آية في حلاوة التعبير وسلامة المنطق، على شرط أن يكون الحديث في داره لا في وزارة المعارف أو وزارة الداخلية
وهو مرهف العقل حين يتحدث، ولكلامه مذاق خاص لأنه لا يتكلم إلا وهو مبتسم، وقد تعجب حين يحادثك بأن يكون لمثله أعداء، لأنه ينقل أحاديثه عن قلب يفيض بالشهامة والصدق والإخلاص، وإن كَثُر القول بأنه مفطور على العنف والاعتساف
والنحاس باشا خطيباً لا يرضيني، وإن كنت أول من تنبأ بأنه سيكون خليفة سعد، يوم رأيته يصاول زغلول باشا في مجلس النواب، وكنت مضيت مع الأستاذ محمد الههياوي لشهود بعض المواقف المهمة قبل أن يموت سعد بعامين
والعيب في خطبة النحاس باشا يرجع إلى الأداء، لأنه يؤدي المعاني بأسلوب رتيب، ولا يفرق بين مقامات الكلام إلا في قليل من الأحايين، ولو جاز أن نقدم نصيحة لرجل في مثل مركز النحاس باشا لرجوناه أن يرجع إلى باب من أبواب العربية أسمه الوقف!
أما النحاس باشا متحدثاً فهو على جانب عظيم من الجاذبية في أوقات الصفاء، فهو يرسل النكتة المستعذبة بلا تكلف، وهو لكرم طبعه ينسيك أنه من الزعماء، وهو أولاً وآخراً رجل له قلب، على قلة أرباب القلوب في هذا الزمان
فإن تحدث النحاس وهو غضبان فلا تعجب حين يقع منه مالا يرضيك، لأن الغضب يحوله