إلى رجل ينكر أن في الدنيا كلاماً يقال وكلاماً لا يقال!
أما موهبة هيكل خطيباً فليست بشيء بالإضافة إلى موهبته في الحديث
يحدثك هيكل باشا وهو (أبن بلد) فتستظرفه إلى أبعد الحدود، لأنه من هذه الناحية موهوب. فإذا خطب وأراد أن يكون (أبن بلد) ضاقت به نفسك، لأن الخطابة لها وقار لا يسمح بالعبارات البلدية، وقد يعدها من الابتذال
ويروعك من هيكل باشا صفاء عينيه حين يتحدث، حتى لتكاد تجزم بأنه الشاب الذي ترفق فأشار في كتابه عن (جان جاك روسو) إلى أنه كان من أهل الفتون يوم كان طالباً في باريس. أما مقام هيكل باشا في الصحافة والتأليف فهو أوضح من أن يحتاج إلى بيان، لأنه في هاتين الناحيتين من أقطاب هذا الجيل.
أما زعيم الدستوريين محمد باشا محمود، فلم أشهده خطيباً إلا مرة واحدة في الخطبة التي قال فيها وهو غضبان:
(نريد أن نعرف لمن الأمر اليوم: ألسعد أم للأمة؟)
وكنت سمعت أنها عرضت قبل إلقائها على الدكتور طه حسين والعهدة على الشخص الذي صحب الدكتور طه أيام سكناه بحي قصر النيل، فهو الذي زعم في جريدة (الإنذار) أن الدكتور طه هو الذي أنشأ تلك الخطبة التاريخية
والذي يرى محمود باشا وهو يتحدث يؤمن بأنه من أفراد الأدباء في اللغة العربية، وكيف لا يكون كذلك وهو من أسلم الناس ذوقاً في الحكم على الأدب القديم والحديث؟
ولم يكن صوت ثروت باشا في الخطابة بالصوت المقبول، كان صوته لوناً من (الصرصعة)، وكان يقرأ خطبه في أوراق مكتوبة بطريقة تشهد بأنه يخشى عادية اللحن والتصحيف
وأعظم خطب ثروت باشا هي خطبته في الرد على معارضيه سنة ١٩٢٢، وقد صححها المرحوم محمد المرصفي، فشهد التصحيح بأنها استهدفت لطغيان قلمه البليغ
أما ثروت باشا المحدث، فكان من الآيات في عذوبة الروح وقد استطاع بلباقته أن يسيطر سيطرة روحية على الزعيم سعد زغلول قبل رحيله عن هذا الوجود، فلما وقف يرثي سعداً بعد ذلك، قهره القلب الطيب على أن يضيف إلى خطبته سطوراً من الدمع المسكوب