السواد؟ لقد شخت حقاً، وصرت كالعجوز الذي حطمه الدهر، وفجعه في أولاده فسيره في مواكب وداعهم الباكية، وما أولادي إلا أماني، وما قبور الأماني إلا القلوب اليائسة.
فيا رحمة الله على تلك الأماني!
يا رحمة الله على الأيام التي كنت فيها غراً مغفلاً أصدق كل خداع كذاب يزعم أن في الدنيا فضيلة وخلقاً وأن قيمة الإنسان بما يملكه منهما. . . لقد خدعني المعلمون والأدباء، فلماذا أخدع تلاميذي؟ لماذا لا أقول لهم: إن المكر والكذب والنفاق هي في شرع الحياة فضائل، فأعدوا قواكم لإصلاح المعوج من شرائعها، أو فانزلوا على حكمها، فخاطبوها بلسانها، وادخلوها من بابها؟
إن المربين والمعلمين سينكرون ذلك ويكبرونه ويرونه إفساداً لعقول الناشئة، فليكن إذن ما يريد المربون والمعلمون!
يا رحمة الله على تلك الأيام ومن يعيدها إلي؟ من يرجع إلي ثقتي بالحب واطمئناني إلى الكتب وسكوني إلى الناس؟
كنت أرى الحب أساس الحياة، عليه قام الكون، وبه استمر الوجود، وكنت أومن به فغدوت لا أومن إلا بالبغض، وصرت أحب أن أبغض، وأبغض أن أحب.
فمن يدلني على مصنف في أساليب البغض حتى أتقنها وأفهمها فأبغض الناس كلهم؟ أبلغ الجفاف في القرائح والجدب في العقول ألا يصنف كتاب واحد في (البغضاء)، وقد ألف السخفاء ألف ألف كتاب في الحب؟
لا، بل من يرشدني إلى الفرار من مهنة الأدب والتخلص من الحب والبغض والعواطف كلها؟ من يحسن إلي فيدعو لي بظهر الغيب أن يصحح الله عزيمتي على ترك الأدب، أو ينقص من شقائي به؟ لقد أعطيت عدة الأديب، ولكن الناس آذوني حتى أهملت عدتي فأسلمتها إلى الصدأ، فأكلها، ففنيت غير مأسوف عليه، لا يأسف الناس لأنهم هم الآلي أفنوها، ولا آسف أنا لأني لم أنل منها خيراً.
فلا يغضب القراء إذا أنا ودعت الأدب بالتحدث عن نفسي، فإنما أرثيها قبل موتها، أرثي مواهبي المعطلة، لقد مت، فدعوني لا تؤذوني بالانتقاد البارد، اذكروا محاسن موتاكم، وإذا لم تكن لهم محاسن فعفوا عن ذكر مساويهم.