جرحه نفوذ النظرة إلى قلبه فانقبض، ولكنه استراح لعلمه أنه لو شاء لكان سلطانه على الفتاة أقوى من سلطانها عليه.
فأجابها قاصداً هدايتها كأنه لم يغضب ولم يبال:
- وما بعد الرقص؟ ألا تفكرين أن كل هذا سراب. وأن هناك موسيقى غير موسيقاكم. اللهم إن كلي آذن لسماع أناشيد التماسيح بحمدك، الصاعدة من الكون، المدوية في الفضاء، فأسألك اللهم أن تجعل من قسمتي سماعها!
- إن الله قد أغدق نعماءه على الكون ولم يحرم منها إنساناً له قلب وبصر، فذهابك الآن تقرع باب الله دليل على أنك عشت إلى اليوم غافلاً عن جماله. وهذا ماضٍ سيقعد لك في مستقبلك وإن جاهدت. خذها عني: إن الله لا يحب من عباده السائل اللحوح اللجوج، ولا من يستعين للوصول إليه بمسبحة طولها أمتار. . .
ثم مالت الفتاة على أذنه تقول:
- هلّم اعترف أنك فهمت أنني أعلم لماذا ارتديت المسوح. أنت طموح، مبدؤك إما الكل وإما العدم. تركت الثروة لأنها نصف. والدنيا لأن كل لذة لك فيها تنقضي، فإذا هي تقصر عن حد تتخيله. وتسير في مؤخرة الصفوف لأنك لست على رأسها. ولو وقفت بين يدي الله لسألته: ما وراءك؟ فتواضعك هو الكبرياء. وزهدك هو غاية الطموح. إنني أعلم أنك نشأت يتيم الأم، ولو عاشت لوجدت في عطفها ما يرطب قلبك، وما أشبهه الآن بصخرة في أعلى الجبل. . . ومع ذلك لم يُفقد الأمل فيك. لقد اخترتك لنفسي، فابق، أنظر إلي، وتمتع بجمالي. ستعلمك قوة حبي كيف تؤمن أولاً بإنسانيتك ليصح إيمانك بعدها بالله. إن لأبي جماعة من مهرة الموسيقيين إذا وقعوا على آلاتهم أرقصوا الجماد، سأجعلهم يعزفون إذا أذن رئيسكم ولا أظنه يرفض وإلا لما كان قديساً - فماذا عليك لو خلعت المسوح وارتديت أبهى الأثواب؛ فقمت إليّ وانحنيت أمامي وتناولت يدي ودار ذراعك حول وسطي وضممتني إلى صدرك، ورقصنا فتمثّلت النغمة في حركاتنا، ثم انفلت عنك وأنا أخبر بك وأنت أدرى بي. . . وسترى أنه لا يزال هناك أمل.
انهد كل شيء من حوله. لو أنه أطاع وسواسه لهوت يده عليها يشدها من شعرها، ويجرها على الأرض. ولداسها بقدميه أو لمال عليها يغمرها بقبلاته. ولكنه خطا خطوة ليس عنها