وكان من رأينا في ذلك أنك إذا أعطيت الفلاح ماء نظيفاً وهو جاهل صدف عنه وعافه وآثر عليه الماء العكر لأنه ماء (دسم) يروي الأصلاب كما يروي التراب.
وقلنا (إنك إذا أنشأت فلاحاً سليم الذوق مرهف الحس مفتوح العقل مستجيب السليقة، فسيجري وراءك لتعطيه الماء النظيف والغذاء الجيد والأدوية النافعة والنصائح القويمة، ولا يجشمك كما يجشمك اليوم أن تعدو وراءه لتقصيه عن موارد الماء العكر (بدسمه وخيره) وتدنيه من مساقي الماء المرشح وموائد الغذاء المفيد).
ومقطع الرأي في كل إصلاح اجتماعي - كما أحسب - أن القدوة فيه خير أنواع التعليم.
ولكن ممن تأتي القدوة في الريف؟
بعض إخواننا المعنيين بالإصلاح يخيل إليهم أن إقامة الوجهاء الريفيين في قراهم وسيلة ناجعة لتعميم القدوة الحسنة في المعيشة، وتعويد الفلاح الصغير أن يحيا في كوخه حياة الفلاح الكبير في القصور.
وهذا حق لو كان الفلاح الكبير قدوة صالحة في جميع الأحوال، أو لو كان الوجيه في قريته مثلاً يحتذى في نظام المعيشة ومناهج السلوك
لكننا نعلم أن الأمر لا يستقيم على هذا التقدير
ونعلم أن كل فلاح كبير يصلح للقدوة ويتخذ مثالاً حسناً للسلوك فإلى جانبه عشرة يضلون من يقتدي بهم ويأبون أن يتمثل بهم المتمثلون من الفقراء والضعفاء فيما هو من مظاهر (الوجاهة) واليسار
قال لي أحد هؤلاء الوجهاء مرة: لقد فسد الزمان وتغير الناس!
قلت: ولم؟
قال: إنك لا تعرف الآن ابن فلان العظيم من ابن فلان الصعلوك، ولا تميز الفتاة التي يملك أبوها ألف فدان من الفتاة التي يعمل أبوها في دكان أو يعمل في ديوان بين صغار الموظفين الموقوتين. . . هذه تلبس كما تلبس تلك، وهذا يتأنق كما يتأنق ذاك، و (البركة) في التقسيط لا بارك الله فيه
قلت: وما يضيرك من ذاك؟ إن كان فيه ضرر فعلى جيب اللابس لا على جيبك، وإن لم يكن فيه ضرر فهو جمال ونظافة ورواج للقصارين والخائطين