فتأفف وأبى أن يقتنع، وظل يقول: إن الأصول أصول، والمقامات (محفوظة) لا ينبغي أن تزول أو تحول.
وسمعنا آخرين من الوجهاء لا يبالون أن يجهروا في غير خجل ولا حرج قائلين: من يخدمنا إذا لبس الفلاح الطربوش أو اغتر بما حصّل في المدرسة الإلزامية من دروس الكتابة والحساب؟ وإذا خدمنا هذا (الأفندي) الجديد فكم يطلب أجراً على الخدمة التي كان يؤديها وهو حاف قانع باللبدة والجلباب الأزرق راض بالخبز القفار
هؤلاء الأغبياء لا يعقلون ما ينفعهم وما يضرهم ولا يدرون عاقبة هذا التفكير الأثيم.
والأنكأ من هذا أن الفلاح الفقير قد يحجم عن الاقتداء بنظافة الأغنياء إذا كانوا من النظفاء، كما يحجم عن شراء السيارة والاستمتاع بالطعام الفاخر واللباس الأنيق.
فتمتنع القدوة من ثم لاعتقاد الغني والفقير معاً أن النظافة والمعيشة الصالحة حق لصاحب المال كحقه في ركوب السيارة الخاصة والإيواء إلى الدار القوراء.
وتقول له كن نظيفاً كفلان بك أو فلان باشا فيستكبر هذا الكلام منك ويقول لك في جد الواثق من صوابه وسداد رأيه: وأين أنا من هذا وذاك؟ ولو استرسل قليلاً لزعم أن النظافة منه أفتيات على حقوق الموسرين وخروج على الأدب الحميد!. . .
نعود إذن فنسأل: ممن تأتي القدوة الصالحة إذا علمنا كما أسلفنا أن القدوة (الشخصية) خير وسائل التعليم في الإصلاح الاجتماعي؟
تأتي من بعض الأغنياء الرحماء العارفين حين يقيمون في الريف إقامة يتصل فيها العطف والود الكريم بينهم وبين الفقراء.
وكم عدد هؤلاء الأغنياء الرحماء العارفين!؟
قليل ولا ريب، والرجاء في ارتقاء معيشة الفلاح الصغير أقرب من الرجاء في زيادة هؤلاء
فأفضل القدوة وأنفعها على هذا ما جاء من قبل المتعلمين الذين يشبهون الفلاح في نشأته فيعمد إلى التشبه بهم غير متحرج ولا معتقد في نفسه أنه يعدو طوره ويخرج من أفقه.
وهنا يأتي دور المعلم الإلزامي في الإصلاح، فيجمع بين الإصلاح بالتعليم والإصلاح بالقدوة السائغة في رأي الفلاح، ويروح في القرية وهو معلم الأبناء والآباء على السواء