ولما اقتضت حكمته تعالى ورحمته بعباده أن تجيء شرائعه معقولة مفهومة من أولئك المطالبين بالأخذ بها والتسليم لها، كان (واجباً) على الله سبحانه أن يشترع لعباده الأصلح الذي يغني والأقوم الذي يهدي، وكان (حراماً) عليه أن يترك هذا الأمر لا ضابط له!. . .
ولعلنا لا يتداخلنا العجب بعد هذا الذي قدمناه، إذا رأينا المعتزلة يؤمنون بمبدأ (القدرية) حتى يغلب عليهم اسمه ويصير كنية لطائفتهم تمتاز به عن غيرها من الطوائف المتفرعة عنها. فهي ما دامت تقول بالعقل حاكما مطلقاً للحسن والقبيح من الأفعال، وما دامت تجعل منه دستوراً لا يخطئ في تفسير شرائع الله، وتنظيم مصالح العباد، واستنباط الأحكام للناس في دائرة المعاملة ومحيط المعاش، فإنها لن ينقطع بها تفكيرها عن درك هذه النتيجة المنطقية، وهي أن العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها، مستحق على ما يفعله ثواباً وعقاباً في الدار الآخرة، وأن الله تعالى منزّه عن أن يضاف إليه شر أو ينسب إليه سبحانه ظلم، لأنه لو خلق الظلم لكان ظالماً، وبالتالي لو خلق العدل كان عادلاً. فالحكيم عند المعتزلة هو من يفعل الخير لأنه الخير، ويتنكب سبيل الشر لأن شره واضح له، أو بمعنى آخر تتقاضاه الحكمة الراشدة والمعرفة الهادية أن يعتنق الحسن ليثاب عليه، ويصدف عن القبح خشية أن يجازى به، لأنه يحفظ بالأول أمر دينه ودنياه، ويخرج بالثاني على أمر عقله فيعصف بحياته ويكون خاسراً لدينه ودنياه.
ومن ثم كانت تكاليف الله التي أمر رسله أن يأخذوا بها العباد، هي بمثابة ابتلاء صادق للصالح والطالح من عباده. فمن هلك في الدنيا أو الآخرة لأنه صد عنها، فإنما يهلك عن (بينة) أي عن تعقل وتدبر، ومن صلح وزكا وحقق له مرافه العيش الدنيوي ومناعم الآخرة، فإنما كان ذلك عن بينة أيضاً، لأن أصول المعرفة وإن كانت مستمدة من العالم الخارجي الذي يتكنفنا وتقع عليه حواسنا، إلا أن إدراك مدلولاتها الحسنة أو القبيحة وشكران النعمة على هذا الإدراك إنما مصدرها العقل، فالإدراك الصحيح والشكران الحق واجبان على كل مكلف لأنه رزق العقل ووهب الاختيار في الكسب
وبعد فهل أصاب المعتزلة في فلسفتهم هذه، وهل هي تصلح بذاتها لتعريف حكم الله وتقعيد التشريع والفقه على العقل الذي يستقل بالقدرة على تنظيم العباد تنظيماً معقولاً مفهوماً يقربون به من الحسن ويبعدون به عن القبيح؟