وعلى الرغم من ذلك، فللرسم في حياة اللغة ونهضتها آثار تجل عن الحصر. فبفضله تضبط اللغة، وتدون آثارها، ويسجل ما يصل إليه الذهن الإنساني، وتنتشر المعارف، وتنتقل الحقائق في الزمان والمكان. وهو قوام اللغات الفصحى أو لغات الكتابة ودعامة بقائها. وبفضله كذلك أمكننا الوقوف على كثير من اللغات الميتة كالسنسكريتية، والمصرية القديمة، والإغريقية، واللاتينية، والقوطية؛ فلولا ما وصلنا من الآثار المكتوبة بهذه اللغات ما عرفنا منها شيئاً ولضاعت منا مراحل كثيرة من مراحل التطور اللغوي.
وترجع أساليب الرسم التي استخدمت في مختلف اللغات إلى أسلوبين اثنين:
(أحدهما) أسلوب الرسم المعنوي , وهو الذي يضع لكل معنى صورة خطية خاصة وقد استخدم هذا الأسلوب في لغات كثيرة، منها الصينية والمصرية القديمة ولا نعلم على وجه اليقين أول أمة استخدمته ولكن يظهر من شواهد كثيرة أنه أقدم أساليب الرسم الإنساني.
وترجع الصور الخطية التي تستخدم في هذا الأسلوب إلى نوعين، فأحياناً تكون صوراً حقيقية للأشياء التي يراد التعبير عنها، أو لأجزاء من هذه الأشياء؛ كما يشير الرسم الهيروغليفي إلى الشمس بدائرة في وسطها نقطة، وإلى القمر بقوس في وسطه نتوء، وإلى الزنبق بثلاثة فروع من شجرته في طرف كل منها ثلاث زنبقات، وإلى الصقر بصورته واقفاً. . . وهلم جرا. وأحياناً تكون مجرد رموز مصطلح عليها للتعبير عن الأشياء والمعاني كما يشير الرسم الهيروغليفي إلى الشهر بصورة هلال في وسطه نجمة، وإلى اليوم بدائرة في وسطها نقطة؛ وكما يشير الرسم الصيني لمعنى الإنسانية بخطين يتكون منهما شكل يشبه رقم ٨.
ولهذا الأسلوب من الرسم عيوب كثيرة. فهو أسلوب بطيء يقتضي للكاتب إسرافاً كبيراً في الوقت والجهود. ولكثرة صوره ورموزه تبعاً لكثرة المعاني والأشياء، يقتضي تعلمه وتعليمه جهوداً شاقة وزمناً طويلاً. ولذلك يقضي كثير من الصينيين زهرة شبابهم في المدارس بدون أن يتموا تعلم الرسم الصيني، وهو لا يقوى على تأدية وظيفته إلا في صورة ناقصة مبتورة؛ إذ من المستحيل، مهما كثرت صوره وتعددت رموزه، أن ينتظم جميع ما يخطر