للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أما هو فلم يسكت. . . بل قذف بالصحاف التي وضعتها أمامه حين جلس إلى المائدة. . . قذف بها إلى الأرض، فتحطمت محدثة ضجة أفزعت الأطفال فأجفلوا وجفت حلوقهم عن ازدراد ما في أفواههم من طعام. . . وكأن لم يكفه ذلك، فصاح على الفور:

- يا للأنذال المجرمين.

فقالت هي في لهجة تساؤل لينة: من تعني يا عزيزي، وماذا أغضبك؟. . . ولم تكد تتم قولها حتى زجرها بصياحه:

(من أعني؟ أتسألينني لم أنا غاضب؟ حسن، إذاً فاعلمي أني حاقد على نفر من الجبناء رأيتهم منذ حين، خمسة أو ستة حسبما أذكر - ما لذاكرتي تخونني كأنها تأبى أن تذكرني أهاجوا الدم في عروقي - ومع هذا فإني أذكر أنهم أخذوا يذعرون طرقات المدينة محتمين بالجند الألمان الذين ساروا إلى جانبهم دون أن يعرف الخجل إليهم سبيلاً. . . يا للحسرة ويا للألم، لقد هربوا من الميدان وفروا من واجبهم المقدس. . . لعمري أني لا أدري أي شراب هذا الذي سلبهم كل نخوة وإدراك. . . يا للعار!)

وهنا عادت الزوجة إلى لهجتها الوادعة فقالت: (خفف عن نفسك يا عزيزي ولا تتعجل في الحكم، فلربما عاودهم الحنين إلى بلادهم فآثروا التحرر من خدمة الجيش. . . أو ربما)

ولكنه لم يدعها تتم قولها إذ بادرها بالصياح:

(أو تجرئين يا خائنة على تبرير فعلتهم؟)

قالها وهو يلوح بقبضته الغليظة في الهواء، ثم ما لبث أن أهوى بها على المائدة واستأنف القول (ولكنك - كسائر النساء - تعجزين عن فهم شيء من أمور الدنيا، فلقد تأثرت عقلياتكن بسذاجة الأطفال وغطت غشاوة من الجهل على أبصاركن، فبانت الواحدة منكن لا تحسن التمييز بين الضعف والخيانة. . . أفلا تدركن ما قد فعل أولئك الأوغاد؟ إنهم لمارقون يجب أن تتبرأ منهم فرنسا بل وتلقي بهم إلى الموت. . . وإلا فإني - وقد أمضيت في الجيش سبعة أعوام كاملة - لن أتردد في الانزواء مبتعداً عن الأرض التي يطئون بأقدامهم الدنسة) تناثرت هذه الكلمات من فم الرجل بل من قلبه - مصدر إيمانه وموطن عقيدته - قوية دافقة فاهتزت لها أركان الغرفة وردد البيت صداها مدوياً مزمجراً.

وكأني بها قد استنفدت كل جهده وهدت من كيانه، فخرج إلى الفضاء كي يسري عن نفسه

<<  <  ج:
ص:  >  >>