بعض ما عانت وينعم بقسط من الهواء الذي تركه الله مباحاً حتى لأمثاله من البسطاء البائسين غير مفرق بينهم وبين من يشمخون بأنوفهم نحو السماء وهم من التراب وإليه مصيرهم المحتوم.
. . . فانطوت الزوجة على نفسها حتى أوى أطفالها الثلاثة إلى مضاجعهم بعد أن اخترقت آذانهم الصغيرة المرهفة تلك الصيحات الجامحة. . . ثم وقفت ومشت إلى النافذة في خطوات وئيدة، وحين بلغتها استندت إلى حافتها بالمرفقين وراحت تتطلع في شوق ولهفة ممزوجين بالقلق، إلى الحديقة التي ترامت الخضرة بين جنباتها؛ وبين التنهدات الزفرات جال فكرها المرهق في شتى المناحي وعاد حاملاً خليطاً من الخطرات:
. . . إنه محق، ويجدر بي أن أوافقه فهم حقاً جبناء أذلاء. . . ولكن مالي وشأنهم، ولِمَ لا يكون الحق في جانبهم. . . أفليست أمهاتهم لم يسعدن بلقائهم بعد فرقة طال عليها الأمد. . . ألسن سيستقبلنهم بشغف وسرور وقلوبهن تقطر ضحكات عذبة رقيقة، وإذاً فما الذي نبغي من الدنيا سوى ذاك؟)
واستمرت الخواطر المبعثرة تتجاذب ذهنها المكدود الذي ما لبث أن نبذها جميعاً ليتمثل ابنها الحبيب في صور سريعة متتابعة: هاهو ذا قبل رحيله إلى الميدان. . . ثم وهو في الحديقة قرب البئر التي اعتاد أن يملأ منها الدلاء ليسقي الزهور والشجيرات.
وانتفضت فجأة. . . على صوت باب الحديقة يفتح ثم يغلق بعد أن ولجه شخص في حذر، كلص متسلل. . . ولكن الكلاب لم تنبح، فماذا دهاها؟
ومن خلفها انبعث صوت متهدج:(أماه). . . يا إلهي إنه هو ابنها الأكبر في سترة الجندية التي كساها الغبار. ولكن ما باله يهمس هكذا. . . صه، إنه أحد الجبناء الهاربين من الجيش. وإلا لنطق صائحاً كعادته. . . نعم فلم يلجمه سوى العار الذي يكتنف أوبته. . .
وارتمى الابن بين ذراعي أمه معانقاً مستعطفاً فلمس منها صدراً حنوناً وقلباً رقيقاً يصفح عن زلته، كيف لا وقد طغت على حواسها عاطفة جامحة من الحنين والشفقة. . . بل والاغتباط بعودته إلى أبيه. . وأمه. . . والمصنع. إنه لم يطق البعد عن هذا الجو الذي ألف، ليستعيض عن بر الأسرة وعطفها بالأصوات الآمرة الزاجرة والحياة الجافة المضنية.
. . . واكتفت الأم بدفاع الابن فصدقته وغسلت بدموعها آلامه. . . وهل كانت تملك غير