كادت تجعل حياة الشرقيين وعاداتهم خليطاً من القشور ومزيجاً من المظاهر الخلابة التي لم تخلق لنا ولم نخلق لها، وما كانت لتوائم طبيعتنا، أو توافق أذواقنا؛ لأنها إنما نقلت إلينا نقلاً فيه تعسف كما ينقل النبات قسراً من بيئة يجود فيها ويترعرع، إلى بيئة أخرى لا تلائمه ولا تعينه على النمو والنضارة، فلا يلبث أن يكون حطاماً لا خير فيه، وحطباً لا حياة به، وهشيماً تذروه الرياح.
فأهابوا بالشرقيين أن يأخذوا بأسباب النهضات القديمة، وأن يقتدوا بالسلف في صدر الإسلام وفي العصور الأولى الزاهرة، وأن يستمدوا من أدبهم ومعارفهم وثقافتهم ما يقربهم إلى الخير، ويبعدهم عن الضير، فكان لهذا الجهاد شيء من الأثر الطيب في إزالة بعض الحواجز القائمة بين شعوب الشرق، والقضاء على بعض الحجب الكثيفة الحائلة بين أممه والحق، والتي خلقها خلفاً أولئك الذين يمجدون حضارة الغرب، وينتقصون أعمال الشرق فكانوا نكبة على بلادهم، ومنافذ فيها يدخل منها الأعداء إليها؛ لأنهم وأمثالهم شؤم على أبناء أمتهم يمهدون السبيل ويفتتحون الأبواب لأرباب الغابات والمطامع والحضارات الفاسدة، ومن آيات الجهاد تلك النزعة الجديدة القوية التي ترمي إلى إظهار الحضارة الشرقية - وهي أصل الحضارات كلها - لتبرز للوجود، وتحل في الميدان، فلا تلبث الفوارق أن تضمحل، وتتابع الكوارث، ونزول المصائب والأهوال، وهي التي أوجدت في الشرق يقظة ظاهرة، وربطت أفراده بوشاح متينة لا تقل في قوتها عما بينهم من روابط النسب والجنس والدين واللغة والإنسانية، وبعثت فيهم روح المقاومة لدفع ما هو باطل، ومحو ما هو فاسد، وجعلتهم لا يغفلون عن مصيرهم ولا يستسلمون لإرادة سواهم، ودفعت نفوسهم إلى اتخاذ الوسائل للنهوض فيما أحبته، والتخلص مما كرهته.
وإن هذه المقاومة الروحية والعملية لتبقى عنيفة شديدة في الأمم الشرقية الناهضة ما بقي فيها رمقة من عيش، ومسكة من ضمير؛ وما دامت تسترشد بنور إيمانها، وتعمل بقوة عقيدتها وما بقي فيها رجال مخلصون، وعلماء ناهضون، وأدباء مثقفون، يقومون برسالة الحضارة العربية الشرقية، ويسعون لها سعيها، وهم مؤمنون بها، وأولئك كان سعيهم مشكوراً.
فإن الله إذا أراد بقوم خيراً جمع كلمتهم على الحق والهدى، وألف بين قلوبهم بصلات