للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من دنياي ولستُ من دنياها؛ وعشت عمري في هذه الحقيقة من بعد، لا تنظر عيناي إلى امرأة ولا أحس وقع نظرة امرأة، ولو قد أحسستها مرة لخجلتُ، لعلمي أنها لا تنظر حين تنظر إليّ - رجلاً مما يقع في عالمها، ولكنها تنظر مسخاً مشوَّهاً يشير إلى آية من آيات القدرة الخالقة!

. . . كذلك كنت عند نفسي حتى لقيتها، فأرتني من نفسي صورة غير ما كنت أعرف لنفسي؛ وكشفت لي عن صورتي في مرآتها!. . .

. . . كنت يوم ذاك جالساً إلى مكتبي أعالج عملاً دقيقاً لا يصلح أن يتولاه غيري، حين دخل عليّ حاجبي يؤذنني أن سيدة تريد لقائي؛ ونهرت حاجبي إذ قطعني عن عملي من أجل امرأة؛ وما لي وللنساء؟ ما شأنهن وشأني؟

ودعوت شاباً من مساعديّ ليلقاها ويتقّصى أمرها فيخبرني؛ وكثيراً ما كنتُ أندبه لمثل ذلك فيكفيني ويجزئ عني؛ ولكنه في هذه المرة لم يُغْنِ عني شيئاً، وعاد إليّ ينبئني أن السيدة لا تريد لقاء أحد غير؛ وابتسمتُ على غيظ حين أنبأني ذلك؛ فقد كنت أعلم من طول خبرتي في هذا العمل الذي أتولاه، ما تدعوني له مثل هذه الزائرة؛ فما هو إلا لاعتقادها أنني - وأنا رئيس المكتب - أقدَرُ على قضاء حاجتها من غيري، وإن كانت حاجتها من التفاهة بحيث يستطيع ساعي المكتب أن يقطع فيها برأي!. . . ذلك رأي النساء جميعاً؛ وإن إحداهن ليبلغ منها الإلحاح في طلب لقائي أن تضجرني وتحرج صدري، فلا أجد عقاباً لها على ذلك إلا أن أخرج إليها فتراني. . .

. . . ولم أكن في ذلك اليوم متهيئاً لاستقبال أحد، ولم تكن بي رغبة إلى عقاب امرأة؛ فطلبت إلى حاجبي أن يعتذر إليها، وخرجت السيدة ولكنها لم تلبث أن عادت، وعاد حاجبي يؤذنني برغبتها في لقائي؛ وتكرر بيننا الرجاء والاعتذار، ثم لم أجد بدَّاً في النهاية من الخروج إليها. . .

ورأيتها ورأتني، ولكني لم أر في وجهها ذلك المعنى الذي طالما رأيته في وجوه النساء حين أجلس إلى امرأةٍ منهم. ولأول مرة منذ ماتت أمي، جلست إلى امرأة أتحدث إليها وأستمع لما تقول، وإني لأحس في نفسي برد الراحة وروح الاطمئنان. لا أعني أنها ذكرتني أمي، فقد كانت أصغر كثيراً مما ظننت وأشبّ شباباً؛ ولكني شعرت إذ جلست إليها

<<  <  ج:
ص:  >  >>