للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

شعوراً لم أحسّ مثله منذ بضع عشرة سنة، منذ ماتت المرأة الوحيدة التي منحتني حبها واستحقت حبي!

كان في وجهها سماحةٌ وطهر، وفي عينيها نظرة طفل يرى كل شيء جديداً على عينيه، وقد افترَّت شفتاها عن ابتسامةٍ حزينة تكتم معنى وتفصح عن معنى.

لم أشك حين رأيتها أنها عذراء، فتاة على طبيعتها الطاهرة لم تطبعها الحياة بعدُ بذلك الطابع المصنوع الذي يجعل لكل شيء لونين في ظاهره وباطنه. وأقبلت عليّ تحدثني حديثها. لم يكن في صوتها ولا في نظراتها شيء يدل على أنها تراني رأي الناس وتنظر إليّ.

. . . أخشى أن أقول لك يا صديقي إنها كانت تحدثني كأنما تناجي حبيباً عزيزاً لقاؤه! ولكني كذلك شعرت وقتئذ!

ومضت في حديثها، ولم أسمع حرفاً واحداً مما قالت؛ إذ كنت وقتئذ في حديث مع نفسي؛ فلما أوشكت أن تنتهي من عرض أمرها وراحت تسألني رأيي، بدأت أصغي إليها. . . وكان لها مشكلة معقدة تقتضي تدبيراً وأناة وحسن احتيال؛ وعنيت بأمرها.

أتراني يا صديقي في حاجة إلى التأكيد بأن عنايتي بأمرها لم تكن شيئاً على خلاف عادتي في مثل مشكلتها؛ ولكنك مصدقي ولا شك، فقد كنت إلى تلك اللحظة من كنت؛ ليس لي همٌّ إلا عملي وواجبي!

وزارتني بعدها في مكتبي مرة ومرة ومرات؛ وتوثقت بيننا أواصر المودة، وألفت أن تراني وأن تتحدث إلي، وألفت أن أستمع إليها، وكأنما كنت في نومة ثقيلة ثم استيقظت، وإنجاب عني غشاء صفيق كان يلقي علي كل شيء من أشياء الحياة ظلاً يبغضِّه إلي، وتزّينت لي الحياة؛ وكأنما كانت مرآتي صدئة فجلتها بأنفاسها فعادت مصقولة لامعة!

ليس يعنيك كثيراً يا صديقي أن تعرف كل شيء؛ ولكن الذي يعنيني أن تعرفه عرفان اليقين، أنني لم أتودد إليها ولم أحاول اجتذابها؛ فقد كانت أسرع إلي من خطرة الأمل؛ فما هي إلا مرات التقيناها حتى كان كل شيء منها يتحدث إليّ حديثاً أجد صداه في نفسي؛ ومن غير مؤامرة ولا تدبير، رأيتني امشي معها ذراعاً إلى ذراع في الطريق!. . .

لم أنم تلك الليلة ولم أذق طعم الغمض، لعلك تحسب ذلك يا صديقي فرحاً بتلك النعمة التي

<<  <  ج:
ص:  >  >>