لبنان (شرقية والغربي) الذي برأه الله على مثال الجنة: روح وريحان، وحور وولدان، فمن حل فيه مؤمناً ذاق نعيم الخلود في دار الفناء، وأحس في الدنيا بسعادة الأخرى؛ ومن حل به غير مؤمن أذهب طيباته في حياته الدنيا واستمتع بها، وما له في الآخرة من خلاق!
لبنان الذي كان دار الأولياء والشعراء والسياح والزهاد، من كل عابد متبتل، ومحب هائم، وتائب أواب!
لبنان الذي جعل الله ماءه خمراً، وجماله سحراً، فلا تدري أهو السحر قد خيل لك أنك في جنة الخلد، أم هو السكر قد جعلك تحس التخلص من هذا العالم، الغارق بالدم الملتحف باللهب، وتشعر أنك تعيش في الأفق الأعلى عيشة اللذة الدائمة، والذهول الناعم الهنيء، وسط عوالم من النور تدرك ولا ترى.
لبنان الذي لا تدري أي شيء فيه هو أجمل: أذراه التي تبرقعت ببراقع الثلج فلم تبصرها عين حي من يوم خلق الله العالم، فعز بالحجاب جمالها حين ذل بالسفور الجمال، أم سفوحه الحالية بالصنوبر، أم القرى المنثورة على تلك السفوح، أم صخوره الرهيبة الهائلة، أم ينابيعه المتفجرة تفجر الحكمة على لسان نبي، أم أوديته الملتوية التواء الفكرة في رأس أديب لا يملك البيان عنها؟ وأيهُ هو أبهى: أصباح (بلودان) أم ظهيرة (الشاغور) من (حمانا)، أم الأصيل الفاتن في ربى (صوفر)، أم المساء الوادع في خليج (جونيه)، أم منجاة الملائكة في قمة (جبل الشيخ)، أم مسامرة الزمان عند (الأرز)، أو في (بعلبك)؟
أم أنت تؤثر هذا كله، وتتمنى لو شملته بنظرة منك واحدة، ثم ضممته إليك، ثم شددت عليه، حتى أفنيته فيك، أو فنيت أنت فيه؟
تعالوا سائلوا سفوحه وذراه ووديانه ورباه، كم شهد من فصول هذه القصة الخالدة، قصة الحب. . . وكم أريق على صخوره من الحيوات والعواطف. . يطل جوابكم لو ملك الكلام. . . ولكنه أبكم لا ينطق والناس بكم لا يروون إلا تاريخ الوحشية المدمرة العاتية ويحفظونه أبنائهم ليكون لهم منه أظفار كأظفار الوحش، ومخالب كمخالب النسور، أما تاريخ الإنسانية العاشقة فإنهم يزدرونه ويترفعون عن حفظه، ويرون من الخطر على الأخلاق أن يدرس في المدارس!