وإلا فمن يروي لي قصة هذا القبر التائه، الذي نأى عن موطنه، وفارق إخوانه، وطوف حتى استقر عند قدم صخرة هائلة من صخور (رأس بيروت)، يلطمه الموج صباح مساء، فيستغيث استغاثة غريق عاين الموت، ولا من مغيث!
قبر ضائع بين الصخور ليس ما يدل عليه إلا حجر منحوت نحتاً غير متقن، عليه كتابة قد براها الماء فلم يبق منها إلا أنقاض هذه الأبيات:
فمن (يا أهل بيروت) يعرف تلك القصة التي لم يبق منها إلا هذه الخاتمة الأليمة: قبر تائه، عليه شعر إن لم يحفل به علماء اللسان، كان حسبه أن يحفل به علماء القلوب؟
هل قي هذا القبر عاشق من لبنان يوم لم يكن قد فسد لبنان ولا عاثت فيه يد الحضارة، عرف فتاته في الطفولة الحلوة المبرأة التي تتهدى بين البيت السعيد، والحقل الخصيب، والمرعى الجميل، والكرم البهي، فكانا يلحقان الأفراخ (الصيصان) وهن بنات يوم واحد، قد خرجن من البيض كرات ذهبية من الريش الأصفر الناعم، تطير لخفتها مع النسيم، وتحل لحلاوتها في الفؤاد، فإذا رأتهما الدجاجة الأم، فأقبلت عليهما نافشة ريشها مستنسرة، خافا فارتدا إلى الجدي يلاعبانه، والجحش يركبانه. وكان عالمهما صغيراً كله، والصغير من كل شيء فاتن محبوب. ومن منا لا يحب الصبي، والبنية، وفرخ الطائر، والهريرة، والكليب، وغصين الشجرة، وزر الورد، والكتيب، والقليم، وكل لطيف من التحف والطرف، ودقيق من الأشياء؟ من لا تنجذب إلى ذلك نفسه، ويحنو عليه قلبه؟
ثم كبرا، فكانا يصحبان القطيع إلى القمم القريبة وإلى الوادي. ثم أبعدا المرعى، فكانا يرافقان الشمس في غدوها ورواحها ويطوِفان تطوافها. ثم اكتمل جمالها وتمت رجولته، وكذلك تؤتي الفضيلة أكلها إذا عاشت تحت عين الشمس في الأعالي التي لا ترقى إليها جراثيم المرض وأمهاته، فصارا يقاسمان الكبار السمر على (المصطبة) في ليالي الصيف، وفي (العلية) في الشتاء. ومرت الأيام، فإذا هي فاتنة القرية وحسناؤها، وإذا هو بطل