هنا كانت تقوم ترقب عودته من المهجر من أمريكا، تذكر أبداً كيف ودعته بالدموع الغزار، وودعها بزفرة وعناق، ومناها الغنى والجاه والعودة القريبة؛ وانقضت الأيام وكرت الشهور ولا حس ولا خبر. . . والفتاة ترقب وتنظر وقد عافت عشها، وجفت أهلها، واختصرت دنياها كلها، فكانت هذه الصخرة الصلعاء التي شهدت مبدأ آلامها وتأمل أن تشهد نهايتها، تظن من حبها وتذكرها أن السفينة لا تزال قريبة منها، وأن الحبيب يلوح لها بمنديله. . . وبينها وبين الحبيب بحار ولجج، وأيام وليال، والحبيب قد سلاها ونسيها، وطمست صورتها في نفسه أمواج الثروة واللذة والدنيا العظيمة في نيويورك حتى محتها. . .
فماتت شوقاً إليه، وأسفاً عليه.
أم هي لم تمت وإنما شهدت عودته، فإذا هو قد عاد رجلاً غير الذي ذهب، لم يبق فيه من ابن القرية إلا كما يبقى من ندى الصباح تحت شمس الهاجرة، لا زيه زيه، ولا لسانه لسانه، فأعرض عنها وازدراها. ورأت إلى جانبه فتاة من بنات (باي باي). فخولطت وعادت إلى صخرتها تنتظر عودة من ليس يعود، حتى وافاها الأجل، فدفنت مكانها؟
أم هو قبر عاشق ماتت حبيبته كما ماتت ليلى، فعاش بعدها كما يعيش كل حبيب يائس؟
أم كانت قصة هذا القبر شيئاً آخر، فمن يعرف هذا الشيء؟
من يهتم بشهيد من شهداء الغرام؟ من يعنى بضحية من ضحايا العواطف؟ من يبكي المحب المجهول، ويقف على قبره وقوف الناس على قبر الجندي الجهول؟
يا رحمتاً للعاشقين! لا يقام لشهيدهم قبر، وإن أقيم له لم يقف عليه أحد، ولم يحفظ تاريخه.
ويا ضيعة هذا الكنز الأدبي العظيم، هذه الدنيا من العواطف لم يبق منها إلا ما أودع ديوان (العتابا) فمن يعنى بجمع هذا الديوان ونشره في كتاب؟
ألم تعلموا بعد أن في هذه العتابا من الصور والمعاني ما لا يملك بعضه غزل شعراء العرب كلهم مجتمعاً؟ فمن يهتم به؟ ومتى يأخذ الشعراء هذه الصور والمعاني فيودعونها الشعر الفصيح؟
وبعد فيا أهل بيروت
إذا جزتم هذا القبر التائه، فقفوا عليه كما تقفون على قبر الجندي المجهول؛ وقدسوا فيه