لا يعيش هذا جميعه في أعماق النفس فحسب، بل هناك أيضاً شهوات الأجيال التي انقرضت واحداً بعد واحد صعداً إلى عهد الهمجية، فتلتقي فيها الذاتية الهمجية بالذاتية المتحضرة وفجأة تتحرك الغرائز الأولية الجامحة فتمزق سجوف المدنية الشفافة وتبرز قوية عنيفة من العالم غير الواعي إلى العالم الواعي وتحاول أن تنال قسطها من العمل الحر، فيتولد صراع عنيف بين عاطفتنا الأخلاقية المتمدينة وبين غريزة اللذة الهمجية الدفينة فينا. ولا شك أن كل كلمة نتفوه بها، وكل حركة نأتيها، مظاهر لهذا الصراع الذي تحاول فيه العاطفة المتمدينة التغلب على غريزة اللذة، بل إن حياتنا النفسية كلها صراع دائم مؤثر بين الإرادة الواعية وغير الواعية، وبين العقل المسؤول والغريزة غير المسؤولة.
وقد شاء (فرويد) من هذا جميعه أن يفهم كل إنسان معنى اندفاعاته غير الواعية، لأنه ليس من المستطاع معرفة عواطف الإنسان إلا إذا أنيرت طبقات نفسه المظلمة، ولا يعرف أسباب اضطراباته إلا إذا انحدر إلى أعماق نفسه، وليست مهمة العالم النفساني أن يكشف للإنسان عما يعيه، كما أن الطبيب لا يستطيع أن يعالج المريض إذا جهل حقيقة عقله الباطن.
ولكن كيف السبيل إلى الوصول إلى أعماق النفس المجهولة؟ يعتقد (فرويد) أن العقل الباطن يعبر عن نفسه بإشارات ورموز، وأن على من يريد الكشف عن أسراه أن يتعلم لغته. وقد وضع (فرويد) أصول هذه اللغة على الطريقة التي جرى عليها علماء الآثار المصرية حين كشفوا عن اللغة الهيروغليفية. فقد أخذ يبحث إشارة بعد إشارة ورمزاً بعد رمز حتى انتهى إلى تدوين لغة العقل الباطن ووضع قواعدها. وهكذا استطاع أن يقيم لعلم النفس أسساً جديدة على طريقة علمية، وأن يكشف عن عالم مجهول.