للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يستبعد كل الظواهر النفسية التي لا تطفو على سطح الحياة الواعية في شكل بارز.

رأى (فرويد) أن العقل لا يعد مصدراً لكل عمل نفسي، وأن العقل غير الواعي ليس طبقة سفلى يختلف عن الأول ويخضع له؛ وقرر أن كل الأعمال النفسية ناتجة أولاً عن العقل غير الواعي، أو ما دعوه بالعربية العقل الباطن، وأن الأعمال التي نعيها لا تختلف عن الأولى ولا تتفوق عليها، لأن وعيها نتيجة عمل خارجي. ومثل هذا كمثل النور حين يضيء بعض الأشياء، فهذه الأشياء موجودة وجوداً مادياً، ولكن النور يجعلنا نراها فليس النور الذي أوجدها لأنها عالقة بالعالم الطبيعي سواء أكانت ظاهرة لتسليط النور عليها، أم مختفية تحت ستار الظلام حيث نستطيع أن نتعرف باللمس شكلها وحجمها.

وهكذا يجد (فرويد) أن (غير الواعي) لا يعني المجهول أو (غير المستطاع الوصول إليه)، كما كان يظن العلماء من قبل وقد اعتقدوا أن في النفس خزاناً مظلماً راكداً أو مستودعاً يحوي المنسيات والمختلفات، فتستمد الذاكرة منه بين وقت وآخر أشياء بمعاونة العقل الواعي. وكانوا يعتقدون كذلك أن عالم غير الواعي عاطل في نفسه لا عمل له ولا شأن له كأنه حياة انصرم عهدها وماض مدفون لا أثر له في عواطفنا الحاضرة.

أما فرويد، فقد رأى أن غير الواعي ليس من رواسب النفس بل هو مادتها الأولى ولكنه لا يصل إلى سطحها المستنار بالوعي غير جزء يسير منه. ولا يعني طي بعض أجزاءه أنه عقل ميت أو أن لا قوة له، لأنه في الحقيقة حي عامل يؤثر في تفكيرنا وعواطفنا، ولعله أقوى العوامل في حياتنا النفسية. وعليه فإنه يخطئ من لا يحسب حساب الإرادة غير الواعية في كل ما تعمله وتمليه، لأنه ينفي العنصر الدخيل في قوانا الداخلية.

ليست حياتنا مظهراً حراً للعقل الواعي يسيرها كما يشاء، وليس عالمنا ملكاً لإرادة واعية تسيطر عليه. إن من ظلمات العقل الباطن تنبع الأنوار التي تلقي ضوءها القوي على أعمالنا، وفي أعماق عالم الغرائز تتألف العواصف التي تسيطر علينا وتغير المجرى الطبيعي للحياة التي كان مقدراً لنا أن نعيشها.

تلتقي في هذه الأعماق المظلمة من طبقات النفس البشرية العواصف التي مرت بالوعي في حين من الزمان، ورغبات الطفولة المنسية التي يظن أنها دفنت إلى الأبد، والمخاوف والأهوال التي قيل أنها زالت ومحي أثرها، وهي جميعها تضطرب حيرى قلقة عطشى إلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>