خاطره أنه سيطرح نصب الاستذكار وكد المطالعة وعناء الدرس. . . سيطرحها جميعاً وراء ظهره، لأنه سيكون فلاحاً نظيفاً يغدو إلى الحقل ويروح إلى المدرسة ينعم بالهواء الطلق ويمرح في الفضاء المنفسح، وينشق الحرية اللانهائية؛ يأكل وينام ويلعب ويهدأ متى شاء وأنى أراد؛ ثم هو بعد ذلك لا يستشعر بأساء الاختبار، ولا شدة الامتحان، ولا غلظة الدرس، ولا جفاء المدرس. . . ثلاث سنوات تمر مر السحاب، فإذا هو رجل يحمل بين يديه (دبلوماً) فتفتح أمامه مغاليق الحياة، وتهش له مصالح الحكومة!
يا ما أحلى هذه الأحلام حين تطيف بخيال الفتى وهو غر قد وقفت به همته عن أن يبلغ مبلغ الرجال، أو أعجزته الوسيلة عن أن يسمو إلى مراتب التعليم العليا، أو ضاقت به فرج التفكير عن أن يصل إلى الغاية!
هذا هو الطالب الزراعي، وإن نزوات الشباب لتتوثب في رأسه توحي إليه بأنه يوشك أن يكون رجلاً يعرف كل شيء في حين أنه يخرج من مدرسته لا يعي شيئاً، وهو أجهل ما يكون في الزراعة التي وقف عليها ثلاث سنوات من عمره.
ويغتمر الطالب في خضم هذه اللجة فتصفعه الحقيقة المرة صفعة تطير لها هذه الرؤى الجميلة بعد أن يكون قد استشعر لذتها حيناً من الزمان؛ فتعود إليه نكسة اليأس حين يرى أن المدرسة التي فزع منها هي المدرسة التي زج بنفسه فيها؛ فهو هنا سيقرأ ويكتب ويطالع ويجلس على مقعد في فصل يسيطر عليه مدرس، ثم يتذوق مرارة الدرس ولذع الامتحان ونكد الرسوب و. . . فإذا هو هو الطالب الذي أخفق ويخفق مرات ومرات، الطالب الذي حطمته السنون العجاف، الطالب الذي جاء ليموت في التعليم الزراعي أو يموت به التعليم الزراعي.
وليت كل طلاب المدرسة من بيئة واحدة وثقافة واحدة ووسط واحد، إذن لاستطاع المدرس أن يوائم بين نوازعهم ورغباتهم، أو أن يجد الحيلة فينفذ إلى عقولهم وأخلاقهم. ولكن هذا الجمع - وا أسفا - خليط لا يمت الأول إلى الآخر بسبب؛ فالفصل الواحد يضم بين جدرانه أشتاتاً من الطلبة تضطرب في غير ترابط ولا وفاق: فالحجرة الواحدة تجمع بين الطالب في الخامسة عشر والطالب في الخامسة والعشرين، وتؤلف بين من نال شهادة إتمام الدراسة الابتدائية هذا العام وبين من قضى سنوات ثلاثاً في السنة الرابعة الثانوية، وتربط