بين من هو ما يزال في فتوة العقل ومن نخر اليأس حشاشة قلبه؛ وتلقى في ركن الفتى الريفي الذي رأى الغيط وجلس إلى الفلاح، وفي الركن الآخر الشاب الذي درج في المدينة وشب وترعرع ونما واشتد في حضن الحضارة الرفيق لا تربطه بالريف آصرة. . . وهكذا يصطدم المرء - أول ما يتغلغل في المدارس الزراعية المتوسطة - بهذا الخلل الذي أسميه في غير تحرج (فوضى النظام).
و (فوضى النظام) تتسلل إلى المدرسة منذ أول يوم من أيام السنة الدراسية، حين تفتح المدرسة أبوابها على مصاريعها، لا تدفع طالباً ولا ترفض طلباً؛ ولقد تظرف معي صديق فقال:(لعل كل هم مدارس الزراعة أن تستنفذ ما عندها من استمارات الدخول طلباً للربح، كدأبها في منتجاتها ومحاصيلها، ولا عليها بعد ذلك!) وقال آخر: (وإنه ليتراءى لي لو أن (عربجياً) تقدم إلى مدرسة زراعية لقبلته بين طلبتها في غير غضاضة، ولا أنفة!) هذه عبارات كانت تحز في نفسي وتؤج في صدري، لأن فيها التهكم اللاذع والسخرية المرة. وليت شعري أي مدرسة في العالم تفتح أبوابها لكل من كان (أفندياً) يتأنق في البذلة والطربوش؟
وتدخل (فوضى النظام) المدرسة فتتشعب لتفعم القسم الداخلي والقسم الخارجي، والصلة بين المدرس والطالب، وبين المدرس والناظر، وبين المدرسة وأولياء أمور الطلبة، و. . . ثم إلى بيت المدرسين.
إن الاضطراب الذي رأينا - من قبل - بين جدران الفصل نشعر به أيضاً في أركان (العنبر) في القسم الداخلي، فهناك مهزلة العلم يمثلها المدرس وتلامذته على مسرح الفصل حين يجهد نفسه ليتغلغل إلى عقول التلاميذ، فلا يجد السبيل، وقد ضرب بينه وبينهم بسور لا يستطيع أن يظهره إلا لماماً؛ وهناك مهزلة الأخلاق يمثلها التلاميذ وحدهم على مسرح (العنبر)، وإدارة المدرسة إما لاهية وإما عاجزة، ولها عذر؛ فهي لا تستطيع أن تسدل حجاباً بين الطالب الكبير والطالب الصغير وهما يقضيان عمر اليوم جنباً إلى جنب، صديقين في الفصل وفي الحقل، ثم. . . ثم في (العنبر)، والكبير يوسوس للصغير ويزين له فيندفع فتنفرط أخلاقه فيهوى، وينفض السامر عن أشياء تصم جبين العلم، لأن كلاً منهما ينطلق يريد أن يشبع رغباته الشريرة على حين قد غفا الرقيب. . .