لقد امتلأ حسي إرهاصاً بالكارثة قبيل وقوعها، يوم لم يكن يبدو في الأفق نذير بها. ولقد حدثت بهذا الإحساس بعض الإخوان فعجبوا من أمري، وحسبوها وسوسة الشعراء. وقد ناديتها مراراً:(أقبلي أقبلي لطال انتظاري!). ولكنني لم أكن أتخيل الكارثة فجيعة فيك. لقد دعوتها لتقبل وأنا قوي بك، فكم من كوارث صمدت لها وأنا معتصم بركنك الركين!
لقد تمتمت قبل الكارثة بليلتين اثنتين أقول: كم أنا في حاجة لمن يربت على كتفي ويضمني إلى أحضانه! ولقد دعوتني مرة - في دعابة من دعاباتك الحلوة - أن آوي إلى حضنك كما كنت طفلاً. وكم كنت مشوقاً لتلبية دعوتك، لولا الكبرياء، الكبرياء التي أودعتها نفسي منذ الطفولة، فجعلتني أهرب من كل مظاهر الطفولة. ولو علمت ساعتها يا أماه أنك راحلة لنسيت كل تعاليمك لأرتمي لحظة واحدة في حضنك الرفيق. . . كما كنت طفلاً!
أماه. . .
من ذا الذي يقص علي أقاصيص طفولتي كأنها حادث الأمس القريب، ويصور لي أيامي الأولى فيعيد إليها الحياة، ويبعثها كرة أخرى في الوجود؟
لقد كنت تصورينني لنفسي كأنما أنا نسيج فريد منذ ما كنت في المهد صبياً. وكنت تحدثينني عن آمالك التي شهد مولدها مولدي، فينسرب في خاطري أنني عظيم، وأنني مطالب بتكاليف هذه العظمة التي هي من نسج خيالك ووحي جنانك. فمنذا يوسوس إلي بعد اليوم بهذه الخيالات الساحرة؟ ومنذا يوحي إلي بعد اليوم بتلك الحوافز القاهرة؟
منذا الذي يصوغ لي الأحلام الذهبية في الآمال، ويبني لي قصور المجد في الخيال، فتصح الأحلام بعد لحظة، ويتجسم الخيال بعد برهة، لأنك تنفخين فيها من حرارة القلب، وتوسوسين لها برُقى الإيمان، وتسكبين عليها إكسير الوجدان
لمن أصعد درج الحياة بعدك يا أماه؟ ومن ذا الذي يفرح بي ويفرح لي وأنا أصعد الدرج، ويمتلئ زهواً وإعجاباً وأنا في طريقي إلى القمة؟
قد يفرح لي الكثيرون، وقد يحبني الكثيرون. . . ولكن فرحك أنت فريد، لأنه فرح الزارع الماهر يرى ثمرة غرسه وجهده؛ وحبك أنت عجيب، لأنه حب مزدوج: حبك لي وحب نفسك في نفسي. . .!