إلا مريدين به أن يكون حافزاً لشعوبهم لتحقيق غاية التسلط والسيادة، ولنا أن نسأل: إذا كان المصري قد بلغ ذاك الشأو من الحضارة في الماضي فما الذي يقعد به عن أن يكون في مقدمة المتحضرين اليوم
ذهب بعض علماء الاجتماع إلى أن المدنيات نشأت أول ما نشأت في الأمم التي تتوافر فيها وسائل العيش وتسهل، في الأمم التي لا تكون الطبيعة فيها قاسية لا تعرف الرحمة، ولهذه الاعتبارات نشأت المدنيات في مصر وآشور والهند والصين، فلما أشتد ساعد الإنسان فوق الأرض، واستطاع مكافحة عوامل الطبيعة ومغالبتها انتقل مركز المدينة. ولكن الرد على تلك النظرية هين ميسر، فالذين بنوا الأهرام ونحتوا أبا الهول في الصخر، وضربوا في العلوم بسهم وافر، وأنشأوا النظم على اختلاف أنواعها، خليق بأبنائهم أن يأتوا في هذا العصر بالمعجزات
لقد كانت مصر القديمة مهبط وحي الأديان جميعاً. فالله، والروح، والبعث، والعقاب، كل أولئك قد اهتدى إليه آباؤنا المصريون. وأين نبتت فكرة الخلود إلا في الأرض المصرية؟ ولعله ليس من العجيب أن يؤلهوا ملوكهم، فعبادة البطولة كانت ولا تزال متأصلة في أعماق النفس البشرية
كان لأجدادنا المصريين حكومة منظمة بكل ما تحمل هذه اللفظة من معنى، يوم كان الغربيون يهيمون على وجوههم في الآجام، ويسكنون المغاور والكهوف، وكانت إدارة مصالح الحكومة تسير على أحسن وجه، وأكمل صورة، يوم كان الأوربيون لا يدركون حتى مدلول تلك الكلمة، وكانت لهم علوم وفنون، يوم كان غيرهم يعيشون على الفطرة
وآمن المصريون القدماء بأن العدل أساس الملك، فوضعوا التشريع المدني والجنائي، ونظموا الهيئات التي توزع العدالة بين الناس
وفطنوا إلى أن الثروة عنصر من عناصر قوة الأمم فاستغلوها على خير وجوه الاستغلال
وأدركوا أن عزة الشعوب ومنعتها في قوة جيوشها التي تحمي استقلالها وتصد المغيرين عن كيانها، وأن الحروب هي القانون القاسي الذي فرض على تلك الإنسانية البائسة، وأن السلام ليس إلا هدنة بين حربين، وأن الجار المتوثب لا يكبح جماحه إلا السلاح، أدرك المصريون كل أولئك فجيشوا الجيوش وغزوا البلاد وقلموا أظافر المعتدين