بالتشاؤم في الكتابين اللذين وضعهما في طور شيخوخته وهما (مستقبل وهم) و (علة المدنية) ولا غرو إذا قرر أن (الحياة عبء ثقيل على الإنسانية جمعاء كما هي على كل فرد)
عرض (فرويد) للإنسانية في عصرنا الحاضر فوجد أنها بلغت من الرقي حداً بعيداً بينما لم يستطع هذا الرقي أن ينيل الفرد السعادة التي يصبو إليها كل إنسان
وللتدليل على هذا استعرض (فرويد) تاريخ العالم منذ الإنسان الأول أي منذ كان الإنسان يجهل القوانين والأخلاق ويبعث كالبهيمة حراً طليقاً من كل قيد. وعندما تألفت الجماعات والقبائل حد هذا التآلف من أطماع الفرد وأهوائه، لأن كل حياة اجتماعية مهما كان شكلها أولياً تحد من حرية الفرد في سبيل إخوانه، فصار لزاماً عليه أن يمتنع عن أشياء كثيرة، فاستحدث الحرام والحلال، ونشأت التقاليد والتواضع والحقوق والواجبات واستتبع هذه جميعها العقاب الذي يقع على من يخالفها
ولم تلبث معرفة الحرام وخوف العقاب، وكانتا ظاهرتين ماديتين، أن نفذتا إلى رأس الفرد وقلبه فاستحدثتا فيهما ما هو أبعد من الذات المادية، أي أنهما أوجدتا فيه الضمير، ونشأت في الوقت نفسه الثقافة العقلية والفكرية والدينية، وأوجدت فكرة الإله القدير العليم يقظة الضمير وكبت الشهوات فتحولت القوى المادية التي كانت تحرك الإنسان الأول إلى قوى عقلية وأخلاقية خالقة وأخذت تسيطر على العالم حتى أخضعت عناصره واستخدمتها في سبيل غايتها
ثم قرر (فرويد) أن الاختراعات والاكتشافات التي قربت الإنسان من درجة الألوهية من حيث الخلق لم توفر للإنسانية أسباب السعادة ولم تدخل الغبطة والسرور عليها. وسبب ذلك أن الثروة الثقافية التي أنتهي إليها الإنسان لم ينلها مجاناً لأن ثمنها الحد من حرية الغرائز. وكل ريح للإنسانية خسارة تلحق بالفرد في أسباب سعادته
تعاودنا في أحلامنا ورغباتنا الغرائز التي أجبرتنا المدنية والأخلاق على كبتها، ولا تزال الذات الأخلاقية تصبو إلى الفوضى والحرية والحيوانية التي كان الإنسان الأول يتمتع بها. فكأننا نفقد من حيويتنا كلما تقدمت المدنية. ويحق لنا إذن أن نتساءل: هل المدنية لم تسط على نفس الفرد، وهل (ذات) المجتمع لم تصب (ذات) الفرد بغبن فاحش؟