وأما حمايتها من اللهجات المجاورة لها فيرجع الفضل فيها إلى ضعف الصلات التي تربط أهلها بمجاوريهم، وقلة فرص احتكاكهم بهم، وما يبدونه في العادة من نزوع إلى العزلة والاستقلال. ويظهر هذا على الأخص في البيئات الزراعية التي تقل فيها وسائل المواصلات، وتضعف حركة انتقال الأفراد، ويكاد سكان كل منطقة يعيشون في معزل عن سكان المناطق الأخرى. حقاً إن تزوج بعض الرجال في هذه البيئات إلى نساء من غير مناطقهم، وهجرة بعض الأفراد من بلادهم إلى البلاد المجاورة لها، كل ذلك وما إليه يجلب إلى البلد عناصر أجنبية عنه. ولكن قلة عدد من ينفذ من الأجانب عن هذه الطرق وما شاكلها وانتماءهم في الأصل إلى مناطق لغوية مختلفة، ودخولهم البلد فرادى وفي أزمنة متباعدة، وعدم وجود رابطة نربطهم بعضهم ببعض، وإقامة كل منهم بين مجموعة من الناس تختلف لهجة أفرادها عن لهجته، وما يبديه أهل المنطقة حيال لهجاتهم من سخرية وازدراء، وصعوبة فهم حديثهم أحياناً، كل ذلك وما إليه لا يحول دون تأثير لهجة البلد بلهجاتهم فحسب، بل من شأنه كذلك أن يحملهم هم على محاكاة لسان المنطقة التي يقيمون فيها. وأما البيئات التجارية والصناعية والساحلية التي يكثر في العادة احتكاك أهلها بغيرهم، فيرجع الفضل في حماية لهجاتها إلى قلة عدد الأجانب بالنسبة إلى سكانها الأصليين، وانتمائهم إلى مناطق لغوية مختلفة، وعدم وجود رابطة تربطهم بعضهم ببعض، وقصر مدة إقامتهم، لأن معظمهم يفد إلى البلد في شئون لا تقتضيه إلا إقامة ساعات أو أيام
غير أنه قد يتاح أحياناً للهجة محلية فرص للاحتكاك الدائم بلهجة أخرى. وحينئذ تشتبك اللهجتان في صراع أهلي لا يختلف كثيراً في مظاهره وطرقه عن الصراع الذي ينشب بي لغتين مختلفتين والذي عالجناه في مقالات سابقة في الرسالة
وينتهي هذا الصراع إلى إحدى نتيجتين: فأحياناً لا تكاد إحدى اللهجتين تؤثر في الأخرى، وذلك إذا تساوى أهل المنطقتين في الثقافة والقوة والنفوذ. وأحياناً تكون إحداهما عرضة للتأثر بالأخرى، وذلك إذا كانت أقل منها في مظهر من المظاهر السابقة. وتختلف درجة التأثر باختلاف الأحوال: فأحياناً يكون يسيراً لا ينال إلا بعض مظاهر، وأحياناً يكون عميقاً ينتهي بالقضاء على اللهجة المغلوبة
فيكون يسيراً إذا لم تكن الفوارق كبيرة بين أهل المنطقتين في الثقافة والنفوذ والسلطان.