وهذا ما أومأنا إليه في مقالنا السابق عن الحرب والشعر فقلنا إن الملاحم المنظومة كانت (هي وسيلة التدوين التي لا وسيلة غيرها بين أولئك الأميين من الأقدمين، فلما كثرت وسائل التدوين في العصر الحديث كان ذلك أقمن أن يضعف النزعة إلى تخليد الحروب بالمنظومات المطولة، وأصبحت القصائد التي تنظم في هذا الغرض أقرب إلى التعليق والاعتبار والإعراب عن فلسفة الشاعر. . .)
فإذا تعرض الشعراء لموضوعات الخطباء والمسجلين في الزمن القديم فذلك شأن لا يدوم في زماننا هذا الذي تعددت فيه مطالب الخطابة ووسائل التدوين، فأصبح تضييع الشعر فيها من الفضول، أو من صرف الشيء في غير منصرفه المعقول
وقال الأديب يحيى زيادة عضو البعثة اليمانية:(أما الشاعر فلابد له من سويعات يجمع فيها أشتات فكره ثم يدبج ببراعته صيحاته، فإن كان شاعراً حقاً عبقرياً استطاع أن يغتصب منبر الخطيب ويستأثر بالجماهير لترديد شعره وقراءته كالشاعر الإنجليز كبلنج، وإلا فهو بالطبع سيمنى بالفشل. ولعل هذا هو السر في أنه لا ينزل إلى ميدان الشعر في أيام الحروب إلا من وثق من نفسه أنه يستطيع بإلهامه وجودة شعره أن يستأثر بقلوب الجماهير ويحملهم على قراءة شعره)
وليس الأمر كما قال الأديب لأن ما نظمه كبلنج إنما كان من قبيل الأناشيد التي قلنا إنها اجتماعية وليست فردية، فحكمها في هذا الصدد كحكم الخطب والمقالات.
وقد حضر الثورات والحروب شعراء فحول في الذروة العليا بين أقوامهم فلم ينظموا فيها إلا قليلاً جداً بالقياس إلى سائر الأغراض والمعاني
فهذا ملتون كان أشعر أبناء عصره من الإنجليز، وكان في حومة الثورة الإنجليزية، فماذا نظم فيها بالقياس إلى ما نظمه في الأغراض الأخرى؟
وهذا فكتور هوجو كان أشعر أبناء عصره من الفرنسيين وقد حضر الثورة وحرب السبعين فماذا نظم فيها؟ وماذا نظم في سائر الموضوعات؟ وما يقال عن هوجو يقال عن شاتوبريان
ولا مرتين وشينيه وجملة الشعراء الذين لابسو الثورة الفرنسية في عهد من العهود.
وكذلك كارودتشي الإيطالي كان أشهر شعراء قومه وحضر الثورات الإيطالية وكان ثائراً أبن ثائر، ولكنه فضل الإعراب عن آرائه السياسية في نشيد الشيطان على تسجيل