للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

من فرط اهتمامهم كأنهم يستمعون إلى من يتلو عليهم حكم الإعدام، اللهم إلا حين كان يشرق وجهه قليلاً إذ يزهي بما يتلو عليهم من غالي الحكم فيبتسمون ابتسامات عريضة، ويتنافسون في عبارات الموافقة والإطراء والإعجاب وإن لم يفقهوا شيئاً من حكمه الغوالي!

وتقاطر المزارعون والفلاحون للسلام على (البك) فكان يخلع الرجل منهم نعليه عند عتبة الحجرة ويسير حافياً على البساط الأحمر كأنما يخطو على نطع ليضرب عنقه: ففي وجهه من معاني الفزع ما لم يخفف منه إلا تذكره أن اليوم يوم عيد، فإذا بلغ إلى حيث يتكئ البك، ومد إليه البك أطراف أصابعه تناولها وانكب عليها فلثمها ورجع خطوتين دون أن يدير ظهره، ومشي إلى الباب فلبس حذاءه وكأنه ألقي عن كاهله عبئاً أي عبء.

وكان البك ينظر إلى كثيرين منهم نظرات ذات معنى فكأنما يذكر هذا بما بقي عليه من الإيجار، وكأنما يتوعد هذا حتى ينتهي العيد، وكأنما يستنجز غيره ما وعد، وكأنما يقول بعينيه لآخر إنه لولا العيد لما سمح له بالدخول عليه؛ إلى غير ذلك من المعاني التي كانت توحيها إلى نظرات هذا المتجبر المتكبر.

وازدادت الحلقة واتسعت إذ أنظم إليها من يجرءون على مجالسة البك أو من يستطيعون ذلك في العيد على الأقل؛ وكان يسلم على كل قادم ما له من مكانة ولو في عرف الناس، فهو مقتنع بما تنطوي عليه تحياته من معاني الشرف، ولذلك فهو ضنين بها عن الابتذال فلا يجود منها حتى في العيد إلا بمقدار

وأدار صاحب السلطان الحديث إلى الحرب، كأنه وقد رأى في زائريه بعض المطربشين يريد أن يبرهن للجميع على أنه وإن كان من غير أبناء المدارس إلا أنه يعلم من أمور الدنيا ما يغيب أكثره عن الكاتبين القارئين.

وبدأ بألمانيا وأنطلق يتحدث وأنا أعاني في كتمان الضحك ما أعاني وأتمنى أن يجود البك بنكتة من سخيف نكاته لأفرغ في جلبة الحلقة ما بنفسي من ضحك مكتوم كم خشيت أن ينطلق على رغمي فأكون موضع استنكار الجالسين

ومالي حيله في أن أصور للقارئ كلامه وحسبك مما أذكره أنه كان يتحدث عن (هتلر) كما يسميه كما لو كان يتحدث عن أبي زيد الهلالي والزناتي خليفة وعنتر بن شداد وإضرابهم من المغاوير

<<  <  ج:
ص:  >  >>