. . . وفي مارس أيضا يقبل عيد الأضحى أو يوم الله، بعد ما أقبل عيد الضحايا أو يوم الوطن! والإيمان بالله وبالوطن أسمى شواعر النفس، والتضحية لله وللوطن أصدق شعائر الإيمان، والاحتفال بيوم الله ويوم الوطن أقدس مظاهر الإنسان، وعيد الأضحى أجل أعياد المسلمين خطراً، وأبلغها في حياتهم أثراً، وأبلجها في نفوسهم دلالة. تجمعت فيه مبادئ الإسلام وغايته كما تتجمع صور الوجود في العين، ومحاسن الربيع في الزهرة. فهو موجة من النور الهادئ الهادي في خِضَمِّ الزمان المضطرب، وفترة من السلام الإلهي بين خطوب الجهاد المضطرم، ونفحة من النعيم السماوي تَنْدى لها القلوب اليابسة بالوداد المحض والبر الخالص، وسبب من الروح المؤاخي يصل بين الغنى والفقير بالإحسان، وبين القوي والضعيف بالرحمة، وبين القريب والبعيد بالمودة، وبين الله والإنسان بالصلاة، وبين المسلم والمسلم بالحج!!
الأعياد الدينية واحات في صحراء الحياة، يستريح إلى نبعها الحرَّانُ واللاغب، ويطمئن إلى ظلها الهيمان والشارد، ويجد الكاسف المعمود في نسيمها النديِّ بَرد السرور ونشوة العافية، ويذهل السائر المجهود برهة من العمر عن مخاطر الطريق ومكايد الرفاق ومساوئ القافلة، ويذكر ان له عواطف صالحة طغت عليها المنافع، وقرابة واشجه قطعت بينها المطامع، وصلات شابكة أوهنتها الجفوة، وتبعات واجبة أعجزه عن حملها كلال الضمير، وغاية إلى الخبر المطلق أضله عن سبيلها غرور الحياة.
عيد الأضحى هو عيد الأسرة والأمة والملة، يفيض المسرة والبهجة على البيت، ويجدد المودة والألفة في الوطن، ويسفر بالتعارف بين وجوه الاخوة في عرفات،
فإذا رده اليوم فساد العيش في المدينة إلى ما نعرف من خروف يذبح ولا يُضحي، ومساجد تؤذن بالمدافع والمآذن ولا تجاب، وبيوت تُفتح للتهاني ولا تزار، وأيام كنقاهة المريض كلها خمود ونوم وأكل، فأن له في القرية صورة لا تزال منذ الطفولة في ذهني فتانة الجمال أخاذة السحر شديد الروعة:
لا يكاد يفرغ القرويون من صلاة المغرب ليلة العيد حتى ترى طريق المقبرة يسيل بالفوانيس الشاحبة الخافتة. ثم تنتشر آخر الأمر على وجوه القبور انتشار الحبُاحب، وتنتقل القرية الحية إلى القرية الميتة فتقضى موهنا من الليل في الاستعبار والاستذكار والقراءة،