ثم يعودون وقد كفاهم (الفقهاء) مئونة ما حملوا من الكعك والفاكهة، فيقطعون الهزيع الثإني من الليل في طسوت الحَّمام أو في دار المزين! والغسل بالماء الساخن لا يعرفه الفلاحون الا ليلة العيد وليلة الزواج ويوم الموت، ثم يُعدون زينة العيد فيكوِّرون العمائم ويصبغون الاحذية، ومن لا يحسن لوث العمامة، أو لا يملك علبة (الورنيش)، ذهب بطربوشه أو بحذائه إلى قريبه أو جاره، والقرية كلها أسرة واحدة يكمل بعضها نقص بعض، فإذا فرغوا من ذلك ناموا على هدهدة الأحلام ومناغاة المنى، وتركوا النساء أمام المواقد ينضجن الخبر ويطهين اللحم ويصنعن الحلوى حتى الصباح!
تشرق شمس العيد على القرية في غير وجهها المألوف، فلا النور كان باهرا كهذا النور، ولا الشعاع كان ساحرا كهذا الشعاع: وتستقبلها القرية في غير زيها المعروف، فلا الوجوه كانت ضاحكة كهذه الوجوه، ولا الجلابيب كانت ناصعة كهذه الجلابيب ولا العمائم كانت زُهْرا كهذه العمائم، ولا الدروب كانت مطرزة بألوان الربيع كما هي اليوم!!
لا يتخلف عن صلاة العيد من أهل القرية غير النساء! أما الرجال فهم صفوف وراء الأمام يؤدون الصلاة، وأما الأطفال فهم وقوف على الأبواب يشهدون الخطبة! ثم تقضي الصلاة فيقبلِّون الخطيب جميعاً، ويقبل بعضهم بعضا، ثم يذهبون رَتَلاً جميل النسق إلى المقبرة، ويرجعون من طريق أخرى إلى الحارات المكنوسة المفروشة، فيجلسون أمام المنازل إلى الطعام الشهي الفاخر، يتبادلون الألوان، ويتهادون الصحاف، ويتركون على موائدهم محلا رحيبا للفقير!
تُرفع (الصواني) وتوضع القهوة، ثم يقوم العمدة في أهل حارته فيزورون الحارة الأولى، فيهنئون ويجلسون ريثما تدار القرفة وتوزع السجائر، ثم يقومون جميعاً إلى الثانية فالثالثة فالرابعة وهلم جراً إلى آخر البلد، وكلما مروا بحارة أخذوا أهلها إلى الأخرى، حتى تجتمع القرية كلها آخر المطاف لدى العمدة فيقضون في مجلسه أكثر اليوم.
ذلك أمر الكهول والشيوخ، أما الشباب والأيفاع فيطوفون زمرا بالبيوت يهنئون الصبايا وأيديهن لا تزال في الطعام، فيطبعن بالقبلات الخلية على الخدود البرنزية خاتما رقيقا من (الدمعة)، ويرسمن بالانامل المخضبة على الثياب البيض طغراء جميلة من الدسم، ثم ينصرف بعد ذلك الشباب إلى لعب الكرة في ساحة البيْدر، والاطفال إلى الاراجيح على