(دفنوها! نعم دفنوها! هي في القبر. . . وجاء صواحبها وهربت، ولم أزل أجري من طريق إلى طريق. وفي اليوم التالي بدأت السياحة. . .
وفي الأمس رجعت إلى باريس، ولما رأيت غرفتنا القديمة وسريرنا وأثاثنا وكل شيء يبقى من الحياة إنسانية بعد الموت، لما رأيت ذلك أصابتني نوبة جديدة من الحزن حتى كدت أفتح النافذة وألقى بنفسي منها
ولما لم يكن في وسعي البقاء بين تلك الجدران التي كانت تضمها فقد حملت قبعتي أريد الخروج، فلما وصلت إلى الردهة رأيت مرآة طويلة كانت وضعتها هناك لتصلح من هندامها وهي خارجة فوقفت أمام المرآة وكدت أرى صورتها مطبوعة عليها
وقفت أرتعش ونظري معقود بتلك الصفحة الصقلية العميقة المصنوعة من البلور في تلك المرآة التي كانت تحتويها. وشعرت بأنني أحب هذه المرآة فلمستها ووجدتها باردة. ما أوجع الذكرى أيتها المرآة المحزنة، المرآة المحرقة، المرآة المفزعة التي جعلتني أقاسي كل هذه الآلام!
سعيد من يستطيع أن ينسى كل ما انطبع على صفحة المرآة وكل من مر بها وكل من نظر إلى نفسه فيها. لقد كان الوجه الذي يرتسم عليها هو وجه الحبيبة الراحلة. فما أشد ما أعاني
خرجت من المنزل من غير رغبة ولا مقصد، وظللت أمشي حتى وجدت نفسي بين المقابر، وجدت قبرها البسيط وعليه صليب صغير من المرمر قد نقش عليه (أحبت وماتت)
هاهي ذي هناك ولكن جسمها أصبح بالياً، فما أكبر المصاب، بكيت هنالك ورأسي منحن على القبر، وظللت واقفاً مدة طويلة حتى أظلم الليل؛ ثم قامت بذهني رغبة جنونية غريبة رغبة المحب اليائس؛ أردت أن أقضي الليل كله باكياً لدى القبر وخشيت أن يروني فيطردوني فماذا أفعل؟
ابتعدت عن القبر وظللت أمشي في مدينة الأموات وما أضيقها بالقياس إلى مدن الأحياء! ثم ما أكثر الموتى وأقل الأحياء بالقياس إليهم! نحن نحب المنازل العالية والطرق المتسعة، ونحب أن نشرب الماء من ينابيعه والخمر من كرومها، ونأكل مما تنبت الأرض، ولكن ليس للموتى شيء غير أن الأرض تأكلهم كما أكلوا نيتها