للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إسماعيل. فالحياة في السنين الأخيرة غيرت سكان المدن تغييراً كبيراً، ونقلتهم نقلة مفاجئة سريعة، حتى ليحملق الطفل في عينك استغراباً إذا حدثته بحديث يتصل بالحياة الاجتماعية في عهد جده أو جدته، ويرى كأن الدنيا خلقت خلقاً جديداً.

كانت حارتنا تمثل طبقات الشعب المختلفة، يسكنها البائع المتجول، يظل نهاره وشطراً من ليله متنقلا من الحارات والشوارع، ينادي على البلح في موسم البلح، والخيار في موسم الخيار. وأسرته وأقاربه يعيشون جماعات في بيت كبير عيشة بائسة تعسة، كل جماعة في حجرة.

وطائفة من الموظفين من رئيس قلم في وزارة الأوقاف، وكاتب في وزارة الأشغال يمثلون، الطبقة الوسطى في حياتهم الاجتماعية والمدنية.

وبيت أرستقراطي واحد كان ربه نائب المحكمة الشرعية العليا، وكان متقدماً في السن، عظيم الجاه، وافر المال، له الخدم والحشم، ويرهبه الكبير والصغير، وله عربة فخمة، تضرب خيولها الأرض بأرجائها فتملأ القلوب هيبة، وكان كل سكان الحارة يسمونه (الشيخ) من غير حاجة إلى ذكر اسم، فالشيخ ركب، والشيخ جاء، وعند بيت الشيخ - وكان الشيخ نعمة على الحارة، فلا تستطيع امرأة أن ترمي ماء قذراً أمام بيتها خوفاً من الشيخ، ولا يستطيع قوم أن يرفعوا أصواتهم في السباب والنزاع خوفاً من الشيخ. ولذلك امتازت حاراتنا من مثيلاتها ومما يجاورها بالنظافة والهدوء.

كان بين سكان الحارة رابطة تشبه الرابطة بين أفراد القبيلة، يعتز الأولاد بحارتهم ويهتفون بها في النداء، ويكون بينهم وبين أولاد الحارة الأخرى منافرة فيحتكمون إلى القوة، ويعتزون بالناشئ الشجاع يظهر بينهم يذود عنهم، ويجلب الفخر لحارتهم - ويرعى سكان الحارة حق الجوار بأدق معانيه، يعودون أحدهم إذا مرض، ويهنئونه إذا عوفي، ويواسونه في مأتمه، ويشاركونه في أفراحه، وهم في ذلك سواسية، لا يتعاظم غني لغناه، ولا يتضاءل فقير لفقره.

وكان لكل بيت من بيوت الطبقة الوسطى منظرة (مندرة) يتبادلون الاجتماع في أحدها. فيسمرون فيها السمر الحلو اللطيف، وأحياناً يحيون الليلة في سماع قرآن أو حفلة طرب، ولحسن حظي كان بجوار بيتنا موظف في الأوقاف يهوى الناي ويتقنه، فكان كثيراً ما

<<  <  ج:
ص:  >  >>