ألوان النقد والعبث لا بما يحب هو، كيف يستطيع أن يمنع الناس من ذلك دون أن يخرج عن طور الكاتب الأديب؟ وإذن فما له يظلم نفسه هذا الظلم، ويلح عليها بهذا العبث الذي لا قصد فيه، أم هل ضاقت الدنيا بالأستاذ كما ضاقت بالحطيئة ذات يوم فيما يقال فهجا نفسه، لأنه لم يجد من يهجوه، أم هل كره الأستاذ الأخذ والرد، وضاق بالحوار والجدال، وكره أن يذكر الناس فيغريهم بذكره، فآثر أن يذكر نفسه هذه المسكينة التي لا تجد من يدافع عنها ويحميها من صاحبها الطاغية. فان تكن هذه فقد أخطأ المازني، فهأنذا أدافع عن المازني برغم المازني. أخشى ألا يكون لشيء من هذا كله أصل ولا فرع كما يقولون، وان يكون المازني قد أراد نفقد الكتاب الذي طلب إليه نقده، فمضى به الخيال ومضت به الدعابة إلى هذه الأزقة الضيقة الملتوية، يبحث فيها عن الكتاب وصاحب الكتاب، فلم يفد إلا أن فقد طربوشه وأضاع على صاحبه الشيخ زجاج نافذته، ولم يجن لنفسه ولا لصديقه المؤلف شيئاً. وويل للكتاب وللمؤلفين من دعابة المازني ومجونه، وويل للكتاب والمؤلفين من الغاز المازني ورموزه، بل ويل للمازني نفسه من طغيان خياله وجموحه، فان في هذا الجسم النحيل الضئيل جسم هذا الرجل الهادئ الوديع ماردا كالمردة وشيطاناً لا كالشياطين.
أما بعد، فلنذكر النقد والطربوش وزجاج النافذة، وما يتصل بها من الأشياء والأشخاص، لنختم المقال كما بدأناه، وليعلم المازني أنا لم نتحدث عنه، ولم نشر إليه، ولم نفكر فيه، وإنما تحدثنا عن كتاب نقد، وطربوش فقد، وزجاج حطمه فتى من الفتيان تحطيماً.
طه حسين
(والراديو أخيراً!
للأستاذ احمد أمين
نشأت في حي وطني، لم يأخذ من المدنية الحديثة بحظ قليل ولا كثير، يعيش أهله عيشة وادعة هادئة بطيئة، لم تتغير عن معيشة القرون الوسطى إلا قليلاً، ولم تنقطع الصلة بينهم وبين آبائهم وأجدادهم، إذا عرضت عليهم صفحة من حياة مصر قبل بضع مئات من السنين فهموها حق الفهم، وقرأوها في أنفسهم وفي معيشتهم، فكانت الصلة بيني وبين سكان القاهرة في عهد الفاطميين أو الأيوبيين أو المماليك أقرب من الصلة بين ابني وعهد