وواصلك بكل مكان - إن شئت معلماً فمعلم، أو غناء فمغن، أو فناً ففنان - يهزل حيث تحب الهزل، ويجد حيث تهوى الجد. يمتاز عن التليفون بأن التليفون طالب ومطلوب، فإذا كان طالباً فقد يفجعك بخبر، أو يوقظك من نوم، أو يحملك مطلبا يشق عليك، أو يصلك بمحدث يثقل على نفسك، ثم تريد أن تتخلص منه فلا تستطيع، فقد لزم الأمر، وحم القضاء. أما الراديو فليس إلا مطلوبا، هو عبد مطيع، وخادم أمين، إما ساكت أو متكلم بما أحببت، نديم ظريف، جهينة أخبار، وحقيبة أسرار، ترياق الهم، ورقية الأحزان، قد تكون له مساوئ لم أتعرفها فان جربتها فسأحدثك عنها بعد.
أين أنت أيتها الخادم التي عجبت من حنفية الماء، وأين أنت أيتها الأخرى التي عجبت من مصباح الكهرباء، لو كنتما اليوم في بيتنا لشاركتكما العجب، ولوقفت معكما حائراً من العلم الحديث، والفن الحديث، ولانفردت عنكما بالحزن العميق على أن ليس لنا من هذه المخترعات إلا المشاركة في الاستهلاك لا في الإنتاج، وإننا، في مواسير - الماء ومصابيح الكهرباء وآلات الراديو والتليفون - وما إلى ذلك من شؤون المدنية، لنا أن نشتري وليس لنا أن نبيع، ولنا أن نكون من النظارة ولكن ليس لنا أن نكون من الممثلين، ولنا أن نستورد ولكن ليس لنا أن نصدر.
إن كنت أيها الراديو قد دخلت البيت أخيراً فلست آخر ما يدخل، فهم يحدثوننا عن سلك آخر سيدخل قريباً يحمل الصور كما تحمل أنت الصوت، فان كنا الآن نسمع لك فسنسمع بعد ونرى - ومن يدري! لعل أسلاكاً أخرى تدخل توزع الحرارة والبرودة بقدر، وأسلاكاً وأسلاكاً - بل لعل هذه الأسلاك لا تعجب الجيل القادم فيراها بعد ان يتحرر رمزاً لعصر بغيض أولع الناس فيه بالقيود حتى سلسلوا بيوتهم بهذه السلاسل، وسيهزأون بهذا النوع من الحياة الساذجة التي تستعين على الرغبات بالمواسير والأسلاك - وسينظرون إلينا كما ننظر نحن إلى سكان ما قبل التاريخ، وسيعجبون إذا فرحنا باتصالنا بأهل الأرض مع انهم اتصلوا بأهل السماء ,. وستعود البيوت من غير أسلاك، ولكنها وافيه بالمطالب التي نستمتع بها، والتي نحلم بها، والتي لا يقدر خيالنا الآن حتى على الحلم بها، ويخلق ما لا تعلمون.