للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مندفع إلى الحق ومتجه إليه بناحية أخرى من نواحي نفسه المنشقة هي أيضاً شقين، والمشطورة هي أيضاً شطرين.

فالمغني المجذوب تراه وهو في حالة الانجذاب وقبيل أن يستقر على صوت روحه يهتز ويترنح - كما يفعل الشيخ علي محمود - يريد ألا يمر من حنجرته إلى الخارج إلا صوت مبعوث من قرارة نفسه فيه التعبير الصادق عن المعنى الذي يقصد إلى التغني به. وهو لا يزال في هذا الاهتزاز وهذا الترنح المتعبين حتى ينطبق كل شطر من شطري نفسه على صاحبه فإذا تم له هذا التوحد الروحي انطلق الغناء من صدره. . . ومن أعماق صدره. . . وجاز حنجرته منساباً مختاراً لا يتحسس أوتارها، ولا يضغط على مقاماتها، ولا يرعى ما يراه المغنون من وزن النغمات وربط الضرب وتقييد الواحدة، وإنما أرسل الغناء إرسالاً تعبيراً ساذجاً صادراً من نفس تغني. . . وعندئذ يكون المغني كما يكون الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي وهو يقرأ غائباً عن الناس أو في شبه غيبوبته عنهم. . . وكما يكون أيضاً الشيخ علي محمود عندما يتجلى الله عليه فلا يجاريه إنسان.

وقد ينجذب المغني إلى حق التعبير عن نفسه بالغناء فلا يعبأ بالناس أن يستمعوه أو أن ينفضوا من حوله فهو يغني لغير مستمع أو لأي مستمع، وهو يغني منفرداً كما يغني في الجماعة، وهو يغني في مقام الغناء وفي غير مقامه، وهو يحترف الغناء أحياناً ويكف عن احترافه أحياناً كما يفعل الأستاذ مصطفى أمين الذي كانت له (شنة ورنة) منذ سنوات والذي لا يكاد أحد يدري أين هو الآن، والذي قيل لي منذ عام أن نفراً من أصحابه يشتبهون في متسول مغن أن يكون هو الأستاذ مصطفى أمين أرسل نفسه في الدنيا ينشد تسبيحاً لله وصلاة وتسليما على رسوله. . .

والرسام إذا انجذب. . . فيا ويل الأوراق والأقلام والألوان منه. . . إنه يخبط بعضها في بعض، ويخرج من هذا الخبط بأشكال يرضيه بعضها وينفره بعضها، ويرى هو فيها جميعاً ما لا يراه غيره من العيب والنقص، وقد يكون رسمه مؤدياً لما لا تبلغ إليه أيدي الرسامين من معاصريه، ومع هذا فهو الذي يعلم أن عمله ناقص، لأنه هو الذي يحس أنه لا يزال في الطريق مدفوعاً نحو تلك الصورة التي تتخايل أمام عينيه غامضة وراء أحجبة الزور وسحابات الباطل. . . فإذا ما اقترب. . . أو إذا ما وصل فعندئذ ينفجر بالصورة الواضحة

<<  <  ج:
ص:  >  >>