للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وأعود إلى تأثير الصحراء في عقل أحمد حسنين فأقول:

عاش هذا الرجل نحو ثمانية أشهر في ظلال المخاوف والحتوف، وكانت الرِّيب تحيط به من كل صوب، وكانت الثعابين تداعبه من حين إلى حين، وكان يُؤْثر سُرَى الليل ليتجه بصره إلى ناحية واحدة، ومن هنا عرف أن الظلمة قد تنفع (والسياسي يعيش في عوالم من الظلمات، ولو سطع النور حول أغراض السياسي لتخاذل وضاع).

الرحالة

لا يدلنا كتاب أحمد حسنين على أنه كان رجلاً من المُترفين حين قام بتلك الرحلة العاتية، وإنما يشهد كتابه بأنه كان رجلاً من صميم البادية. كان رجلاً يهمه أن يقيم البراهين على أنه لم يتعلم في جامعة أكسفورد غير حزم الأمتعة، والتعرف إلى مواطن الخوف والرجاء في مفاوز الصحراء.

هو فلاح متحضر، فهو لذلك أذكى الرجال وأعقل الرجال.

وقد عرف هذا الفلاح المتحضر ما في البادية من مكر ودهاء، فهو يلبس حُلة ذكائه في كل وقت، ويشتمل بثوب مكره في كل حين.

وما ظنكم برجل تحيط به الشكوك من جميع الجوانب وهو فريد وحيد ثم ينتصر بلا مشقة ولا عناء؟

ذلك هو أحمد حسنين الذي ائتمنه الملك فؤاد واصطفاه الملك فاروق، ومن الصعب جدَّا أن يكون الرجل أهلاً لثقة الملوك، فذلك مقام لا يظفر به إلا الأقلون من أعاظم الرجال.

وقد فَطِن أسلافنا إلى أن صحبة الملوك تحتاج إلى تثقيف خاص، فوضعوا المؤلفات الطوال في التعريف بما يجب أن يتحلى به أمناء الملوك من شمائل وآداب. وهذا الفن من التأليف لم يكثر إلا في العصور التي ازدهرت فيها الحضارة العربية الإسلامية، وإنما كان ذلك لأن ازدهار الحضارة يزيد في مشكلات المجتمع من النواحي الذوقية والاجتماعية، وتلك حال تزيد فيها تبعات من يتصلون بالملوك، لأنهم عندئذ يكونون صلة الوصل بين الحاكمين والمحكومين، وعلى ذكائهم وبراعتهم وإخلاصهم يرجع الفض في حل أكثر المعضلات. . . فمن خَطَل الرأي أن يظن بعض المتعاقلين أن إكثار أسلافنا من التأليف في هذه الشؤون دليل على أنهم كانوا يعيشون في عصور الاستبداد.

<<  <  ج:
ص:  >  >>