للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وهل ننسى حديث (السبحة) في ساعة أُنْس؟

كان في القافلة فتىً رخيم الصوت، وكان أحمد حسنين يتشهى السماع، ولكن الفتى له عمّ كهل، ومن العيب في البادية أن يتغنى الشباب بحضرة الكهول

وتلطف أحمد حسنين فأستأذن للفتى من عمه الكهل، فانطلق الشاب يغنِّي، واندفع الشيخ يسبِّح، ليشغل نفسه بالتسبيح عن الغناء

فماذا صنع أحمد حسنين؟

أخذ يرصد السبحة ليرى كيف يتواتر خفق الحبات، فعرف أن حباتها تصاب بالبطيء من لحظة إلى لحظة ثم تعود إلى الإسراع، وكان ذلك شاهداً على أن الكهل الوقور كانت له صَبَوات، وأن رنين السبحة لم يُلهه عن تشوف المحبين إلى أوقات الوصال

وأحمد حسنين لا ينسى تسجيل ما مرّ به من عواطف، كأن ينص على أنه استيقظ في أعقاب حُلمٍ رائع على وجه فتاة حسناء، وكأن ينص على أنه كان يتلبّث في بعض المواطن ليزوّد قلبه وعينيه بأطايب الجمال

وجملة القول أن أحمد حسنين شاعرٌ وصَّاف: هو يحدِّق في كل شيء، وهو يصف كل ما يراه وصفاً يشهد بأنه مفطور على قوة الإحساس.

وقد أطال أحمد حسنين في وصف القمر والنجوم، كما أطال في وصف الشروق والغروب، فكيف صنع في هذه الأوصاف؟

نقل إلينا أحاسيس أهل البادية بقوة وحيوية، لأن الكواكب في البوادي لها سِحرٌ يجهله من يأنسون بأضواء المصابيح

ثم ماذا؟ ثم أقول إن أحمد حسنين صوَّر نفسه في كتابه بصورة الرجل الممتحَن بهوى الصحراء، ولو قال له الغادون: ما تشتهي؟ لقال: أعود!! كما عبر الشريف الرضي عند فراق بغداد

وهنالك صورة أبدع وأروع، هي صورة العالم الحصيف الذي أباحه العلم ما لا يباح من هتك أسرار الصحراء

هنالك أحمد حسنين الذي يتمارض ليخلو إلى أجهزته العلمية في غفوة الليل

هنالك الباحث المستقصي الذي يدوِّن كل ما يرى وما يسمع وما يذوق بلا تأجيل ولا

<<  <  ج:
ص:  >  >>