تتحرك. . . ولا اضطربت بي مجهولات الكون كغريق طاف على أكف الأمواج. . . إن كل شيء في الطبيعة صامت جامد لا يعطي جواباً عن غايات الحياة إلا هذا النوع الذي أحمله في جسدي وأستوحيه في فكري وأبادله ما صح وما فسد!
لقد قلت في مقال سابق: إن الإيمان بالإنسان هو عندي أول المعاني الدينية، فلا يؤمن بالكون ولا خالقه من لم يؤمن بهذا النوع. . . وكان قولي هذا كضربة معول موفقة وقعت على باب كنز مرصود فانفتح! ولست أزعم أن ما رأيته وراء هذا الباب حقيقة ينشدها الناس ويجدون في ظلها راحة وطمأنينة فالله أعلم بموقع هذا القول من نفوس القارئين. . . وإنما وجدت وراء اهتدائي إليه راحة لنفسي وحلاً لكثير من المشكلات التي أجدها فيها وفي الإنسانية والطبيعة.
ولقد علمني الخروج من نفسي ونوعي بعض الأحيان ورصدهما بعين غريب عنهما أن أرى كثيراً مما خفي على الذين يلبثون رهناء سجناء في الشبكة التي تلفهم مع سائر أفراد القطيع
أجل، إني أرصد هذا النوع كغريب عنه فأرى منه ما لا يراه إلا الفارقون لنفوسهم الخارجون بالفكر عن حدود وجودهم الناظرون إلى حياتهم نظرات الملأ الأعلى ممن هم فوق الإنسان، والملأ الأدنى مما هن دون الإنسان. . .
فماذا وجدت في الإنسان؟ من قلوبه وعقوله تنبثق المعاني المكتومة المسجونة في أطواء المادة. وفي بيانه أصوات ربطت الكون كله ولاءمت بين نسبه المختلفة ولخصته واختزلته ووضعته أمام الفكر ملموماً. . . وفيه نغمة مفهومة رقيقة وسط صخب الأمواج التي لا عدد لها في البحار، والهبوات التي لا عدد لها في الأجواء. . .
إنه مشبوب الحاجة دائمها، واسع الآمال والخيال في تعظيم المادة وتنويعها وتصريفها والاحتفاء بكل سر فيها، لا يخرج من الأرض إلا بعد أن يصوغ ترابها ومواتها عرائس ومباهج، ويبنيها أجساماً محبوكة ذات أوضاع وفنون. . .
لقد استمرت الأرض من قبله جامدة لا يتغير فيها شيء من موادها إلا الدورات الأبدية المتشابهة من الهواء والماء والفصول وتعاقب الليل والنهار والشهور. . . ولم نر يداً غير يده تضع في الأرض حجراً على حجر أو تحفر قناة مستقيمة تصرف فيها ماء أو تجلب