- إن الأمر على شيء من الخطر والصعوبة يا والدي، فهو يحتاج إلى خلق شخصية خاصة به فلا يكون صورة لغيره، وعليه أن يتعود الصدق، وإن صعب اليوم تعوده، فلا يدخل في كل خبر كلامه، وأن يجعل ألفاظه من نور ضميره، لا من سواد رغباته وأطماعه!! لأن الرغبات إذا اسودت بسطت سلطانها وسوادها على كل عمل يعمله الإنسان. . . وأن يعرف كيف يكيف صور الحياة التكييف الذي يجعلها باسمة. . . وأن يخلق لنفسه مثلاً أعلى. . . وأخيراً أن يبعث في شخصيته وصدقه وضميره وتكييفه للحياة ومثله الأعلى حيوية تكفل له النجاح في كل سبيل ينهجه، وعمل يعمله، وفكر يتأمله. . . فتشعر الحياة بأنه موجود فيها!!
ولكن ليس من السهل يا بني أن تشعر الحياة بك، وإن هذه الصفات التي بينتها لا تجتمع لكل إنسان، ثم إن الوصول إليها من الصعوبة بمكان. . . وليس في مقدور كل فرد أن يكون رجلاً. . . يحسن مغالبة الحياة ومدافعتها ويجعل فكره وشعوره في الناحية التي لا تقيم للخطوب وزناً. . . وليس الرجل من يبكي لأن الطبيعة وهبته عيناً تدمع! ويصرخ لأنها أعطته لساناً يصرخ! وييأس لأنه عجز، ولأن الحر من طبيعته اليأس إذا لم يقدر! إنما الرجل من يخرج من عينه إشعاع كله حياة وابتسام لأن الطبيعة وضعت السحر في البصر، ويضحك لأنها وهبت فمه معنى الضحك، ولا ييأس لأن الحياة لا يأس معها. . . ولِمَ اليأس. . . وليس في الحياة ما تنقطع عنده حيلة من الخطوب؟ فإذا نظر الإنسان في أحوال حياته، وصدق تأمله، ولم يمنعه إحجام، ولم يقيده تردد، ولم يذهب بجلده رهبة، استطاع أن يجعل كل أمر قريب المتناول، هين المحاولة. . .
- أجل يا والدي. . . كم مرت علي أيام، علم الله لم يك فيها ألم ولا يأس. . . ولكنني استقبلتها وفي نفسي ألم ويأس فغمر إحساس نفسي الحزين كل صور الحياة فرأيتها عابسة قاتمة فشكوت منها قائلاً:
ظلام ببطن الأم ليس له سر ... وليل ببطن القبر ليس له سر