واضعين مبادئهم في أحد أدراج مكاتبهم التي يستريحون إليها!
ويمتد هذا التناقض إلى نفسية الأمم كمجموعة. فليس أعجب من أمم مسيحية تعتنق ديناً يدعوها ألا تقابل الشر بالشر وأن تدير الخد الأيسر لمن يلطم الخد الأيمن. وهي لا تتورع عن قتال دام تعد له أشد الآلات فتكا لإهانة تافهة، أو لطمع أشعبي في قطعة أرض أو تصريف محصول.
فرق بعيد إذن بين ما يعتقد البشر وبين ما يعملون. وبون شاسع بين ما يؤمنون انه واجب أن يكون، وما هو كائن بالفعل، وفي هذا سر الشقاء والبؤس الذي يسود العالم.
كان من نتيجة هذا الخلاف بين ما تراه ضمائرنا وما تعلمه أيدينا أسوأ العواقب. فالنظم والأوضاع الاجتماعية الحديثة لا تستند إلا إلى القوة. ولا تقوم إلا بالعنف.
فليس من حكومة تستطيع أن تدبر أمر دولة دون أن يكون من ورائها شرطة تجبر الناس على الطاعة. وليس من قانون يسري إلا إذا اعتمد على قوة تنفيذية تضطر الناس إلى الإذعان له، وليس من عمل يدار إلا إذا تحكم أصحاب رؤوس الأموال في العمال، ويتجلى هذا العنف في أبسط نواحي الحياة الاجتماعية أو أكثرها تعقيداً من العلاقات العائلية إلى العلاقات الدولية، فلا يتاح لأسرة أن تستمر إلا إذا استبدت المرأة بالرجل أو الرجل بالمرأة، ولا يمكن لنزاع إن يحسم بين دولة وأخرى إلا إذا أريقت الدماء وأزهقت الأرواح
ولو ترك الناس وضمائرهم لما جبيت الضرائب، ولما لفت الجيوش، وما كان ليخطر ببال إنجليزي أن يقتل فرنسيا، ولا فرنسي أن يستعبد سوريا
ولو كان الأمر شورى والمبادئ التي نودي بها من مساواة وإخاء حقيقة واقعة لما وجدنا طبقة حاكمة وأخرى محكومة. وما كان يتاح لأحد أن يسعد ولآخر أن يشقى.
ونحن نحس كل هذا ونشعر أن ما نعمله مساقون إليه سوقا ومدفوعون إليه دفعا. وإنا لا نستطيع مع الأنظمة الحالية صبراً، ولكن لسنا من الشجاعة الأدبية بحيث نجهر بضرورة تغيير نظام العالم وبوجوب قلبه رأساً على عقب.
لقد أصبحت المدنية الحالية نسجاً مهلهلاً ونظاماً معطلا لا يصلح لما يجيش في نفوسنا ويجول في عقولنا. وأمست رياء وخداعا تتدثر بمسوح كهنوتي لتخفى فجورها وشراستها. فهي إن استعبدت الأمم فلكي تأخذ بيدها إلى الرقي! وهي إن لجأت إلى القوة في هذا